شبح الاقتصاد
شبح الاقتصاد
إن المُمارسات التجارية لها دور كبير في الانحطاط المجتمعي والأخلاقي، بل ساعدت على تمكين نظام التفاهة لكل مفاصل الحياة، لقد صار كل شيء يخدم المال، لقد أصبحت الدول تشبه شركات كبيرة تتعامل مع مواطنيها على أنهم مُجرد أدوات تُستخدم لزيادة رأس المال، فلم تعد الحوكمة مقتصرة على الشركات والبيئة التجارية فحسب، بل صارت داخلة في السياسة، فصار الحال أشبه بمجرد إدارة عملية ما خالية من المفاهيم الكُبرى.
لقد صار السوق الآن هو اليد التي تُحرِّك البشر، لا العكس، لقد صارت الخوارزميات تقوم بعملياتها السريعة دون تدخُّل للعقل البشري، فصار السوق في حالة من التضخم الخارجة عن المعطيات البشرية الاجتماعية، وأصبح الكمبيوتر الاقتصادي هو العقل المُدبِّر لكل أموال البشر.
لقد رفع الناس أيديهم عن “الاقتصاد” الذي أصبح من العسير فهمه، إذ إن عقل إنسان العصر قد سلَّم أمره لشخصيات لا يعرف ما تعرف، فكما قال بالتازار جراسيات في كتابه “الناقد” عن الشخصيات في عصره: “شخص يُرى وكأنه عالم رغم أنه لم يدرس؛ رجل حكيم ولكنه لم يفعل أي شيء مُتعب.. باختصار: إنه كاهن الابتذال؛ شخص يتفق الجميع على ما لديه من معارف عظيمة، رغم أنهم لا يعرفون عنها شيئًا”.
ولو تأمَّلت أكثر وجدت أن الرأسمالية لها الدور الكبير في هذه الحالة المُخيفة الغريبة، لقد صارت النقود هي الهدف لذاتها، النقود فوق كل شيء، كما قال سيميل: “لقد أصبحت النقود تحديدًا غاية الغايات”، والحقيقة أن النقود وسيط للقيمة ليست قيمة لذاتها، إلا أنها كُلما كبرت كوسيلة صارت قيمة مُطلقة في ذاتها.
لقد صارت النقود الآن محل القيمة، وذلك لأن القيمة في الثقافة الرأسمالية هي مسألة مالية فحسب، لقد قسَّمت الناس وصنَّفت احتياجاتهم، فأصبحت المسألة لدى الأغنياء رفاهيات وأصولًا، ولدى الفقراء مساومات ومقارنات، وقد أدى ذلك إلى ظهور الطبائع والأمراض المختلفة التي لم تكن موجودة من قبل، لقد طوَّرت “باثولوجيات خاصة”.
الفكرة من كتاب نظام التفاهة
حينما تفتح التلفاز فتُشاهد “الفنانة” المُلوَّنة تُقدِّم نصائح زوجية، فتسأل ما الذي جعل الفنانة مُرشدة مجتمعية؟ أو حينما تتأمَّل في الفيلم أو مقطع اليويتوب الأكثر مشاهدة ثم تسأل: لماذا هذا العدد الضخم من المُشاهدات لهذا النوع من المقاطع والأفلام؟ فإن هُناك سمة مُشتركة بين هذه الفنانة وهذا الفيلم وهذا المقطع؛ إنه التسطيح والفراغ القيمي.
إننا في عصرٍ يطلب منك ألا تُفكِّر كثيرًا، يجب ألا تكون عميقًا أبدًا، كُل الأشياء في حقيقتها بسيطة لا تتطلَّب منك سوى فنجان قهوة وكتاب عنوانه غير مفهوم، أنت الآن مثقف، أنت الآن مُتحدِّث جيد حول القضايا المُهمة.
في كتابنا يأخذنا الكاتب إلى رحلةٍ شيِّقة مؤلمة بعض الشيء ليُظهر طبيعة العصر الذي نعيش فيه، فنعرف خطر المُنزلق الذي يزداد انحدارًا يومًا بعد يومًا على عدة مستويات؛ فيضعنا أمام حقيقة مُشاهدة لكن لا أحد يعبأ بخطورتها!
مؤلف كتاب نظام التفاهة
الدكتور آلان دونو: أستاذ الفلسفة في جامعة كيبيك الكندية، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة باريس، وله اهتمام كبير بالتصدِّي للرأسمالية والعولمة، اشتهر بكتابِه Noir Canada ويعني “كندا السوداء”، والذي هاجم فيه شركات صناعات التعدين الكندية هجومًا قويًّا بسبب عمليات الفساد والنهب التي قامت بها في أفريقيا.
من مؤلفاتِه: Imperial Canada Inc.: Legal Haven of Choice for the World’s Mining Industries
معلومات عن المُترجمة:
مشاعل الهاجري: أستاذة القانون الخاص بكلية الحقوق جامعة الكويت، حاصلة على دكتوراه في القانون المدني المُقارن من جامعة “إسيكس” في المملكة المُتحدة، ونالت جائزة “جامعة الكويت لأفضل باحث من أعضاء هيئة التدريس للشباب”، عام 2008.
ألَّفت كتاب: “قانون العمل الكويتي الجديد”.