هل جُنَّ البشر؟
هل جُنَّ البشر؟
على ماذا يدل صراخ الأطفال والآباء على أتفه الأسباب؟ ولماذا قد يتصرَّف الطفل في بعض الحالات بشكل مزعج؟ إنه يحاول أن يُثبت وجوده، وأن يشعر بأنه مُعترفٌ به.
والاعتراف في الحياة الواقعية يأتي من خلال التفاعل بين طرفين، فإنه يقتضي حوارًا بين أنا وأنت، إلا أن الواقع الافتراضي يقدِّم اعترافًا بلا كلام، ولهذا يبحث الكثير من الجيل الحديث عن شعور بأنه يُعترف به من خلال مواقع التواصل، فأصبحوا في حالة من البحث الدائم عما يجذب انتباه الناس، وبالتالي من خلال عدد الإعجابات يتأكَّد شعوره الداخلي، إلا أنه شعور بلا يقين، لهذا نرى بعض الأفعال غير المنطقية أبدًا من قِبل البعض، فقد يقوم ببعض الأمور غير الأخلاقية لمجرد الشعور بالتميُّز.
إنه تعامل جديد تمامًا مع الذات، ففي حالة التقاط الإنسان “السيلفي” يبحث الإنسان عن نفسه من خلال صورته المنعكسة، إنه يلمس ذاته بيده “بالمعنى الحرفي”، فبمجرد تحريك أصابعه على الشاشة يستطيع لمس صورته، وبهذا يعتقد أنه يصل إلى الذات من خلال اللمس، وليس من خلال الفكر.
لقد وصل الأمر إلى حد الجنون، فترى أحدهم يلتقط سيلفي بجانب ميِّت، وآخر يلتقط سيلفي بجواره شخص بلا مأوى، لقد انتقل السيلفي من طبيعة تبادل إلى فعل مرَضي يخلع الإنسان فيه طبيعته، حتى في حالات الانتحار؛ فقديمًا كان يكتب الإنسان وصيَّته قبل إقدامه على هذا الأمر، إلا أنه الآن يترك منشورًا على الفيس بوك يتحدَّث فيها عن نيته في الموت، ويُتلقَّى منشوره بشكل عادي، كل يوم يتحدَّث الناس عن لا مبالاتهم، إلا أنهم في الحقيقة يقتلون أنفسهم.
الفكرة من كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
يرفع هاتفه أمام وجهه.. يمد ذراعه.. يبتسم ويلتقط الصورة لنفسه، قد يبدو مشهدًا معروفًا ومفهومًا جدًّا في عصرنا الحديث، لكن دعنا نتوقَّف قليلًا ونتساءل: هل يبدو هذا التصرُّف طبيعيًّا؟ وهل الإنسانية الممتدة من خلال هذا المشهد ستكون طبيعية؟ وهل بالفعل سهَّلت مواقع التواصل الاجتماعي عملية التواصل بين البشر وجعلتهم أكثر قُربًا؟
قد يعتقد كثيرون أنه بالفعل قد أضافت مواقع التواصل الكثير من الفرص إلى الإنسان الحديث، لكن هناك جانبًا مُظلمًا، بل شديد الظلامية في هذه المواقع، إنها تخلق أشكالًا جديدة من الوهم والتضليل والتيه، إذ إن الصور التي تُلتقَط وتنتشر ما هي إلا محاكاة للكثير من التصوُّرات النفسية المشوَّهة التي تحتاج إلى تحليل وتفصيل.
قدَّمت لنا الكاتبة حقيقة الأزمة التي أحدثتها الثورة الرقمية في أنماط رؤيتنا للعالم ولأنفسنا، لنُدرك كيف أن الإنسان الحديث يعيش في سجن وهمي قد بناه بيده، بل وتحذِّرنا مما هو آت!
مؤلف كتاب أنا أوسيلفي إذن أنا موجود: تحوُّلات الأنا في العصر الافتراضي
إلزا غودار: أستاذة الفلسفة ومحلِّلة نفسانية وكاتبة فرنسية من مواليد 1978م، تعمل باحثة جامعية في جامعة باريس كريتاي، كما أنها مديرة أبحاث التحليل النفسي في جامعة باريس، حاملة لدكتوراه في الفلسفة، وعلم النفس، وعلم النفس التحليلي، وهي عضو الاتحاد الأوروبي للتحليل النفسي.
من مؤلفاتها:
Freud à la plage: La psychanalyse dans un transat (A la plag)
Ethique de la sincérité: Survivre à l’ère du mensonge (Hors Collection)
معلومات عن المترجم:
سعيد بنكراد: مفكر وباحث وأستاذ السيميائيات بكلية الآداب جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط بالمغرب، وهو المدير المسؤول لمجلة “علامات”، وهي مجلة متخصِّصة في الدراسات السيميائية، وله عدد من الأعمال منها: “وهَج المعاني: سيميائيات الأنساق الثقافية”، و”بيرنار كاتولا: الإشهار والمجتمع”.