الطائر المهاجر
الطائر المهاجر
لعلَّ الآن بات واضحًا لنا مدى تأثير الماضي اليهودي والموروث التاريخي في الشخصية الصهيونية، فالتاريخ واقع سيكولوجي أكثر من كونه واقعًا ماديًّا، حيث يمثل البوتقة التي تنصهر فيها العوامل السياسية والاجتماعية والدينية لتشكِّل لنا تلك التركيبة النفسية المعقدة، لذا كان لزامًا على الباحث النفسي استقراء التاريخ ومحاولة الرجوع للجذور التاريخية لمعرفة الظروف والبيئات والأحوال التي صاحبت اليهود الأوائل وكيف امتدَّ تأثيرهم إلى الأحفاد اليوم، ولكن لا بدَّ لنا من اختيار نقطة بدء مناسبة للبحث التاريخي فلا تكون موغلة في الماضي السحيق حتى لا ننفصل عن الواقع، ولا قريبة عهد بالحاضر حتى لا تكون هناك إمكانية لدمجها بالواقع المعاصر.
وثمة ملاحظة مهمة يجب على الباحثين الانتباه لها، وهي أنه من الصعب التسليم بوجود خيط تاريخي يصل بين الآباء الأوائل لليهود ممن تم ذكرهم في الكتب السماوية ويين صهاينة اليوم، كما أن التاريخ بوصفه واقعًا ماديًّا لم يكون واحدًا بالنسبة إلى كل اليهود، نتيجة لتشتُّتهم في مجتمعات شتى، وعلى ذلك فمن الصعب الحديث عن نشأة نفسية واحدة مهما بلغت ألوانًا من التشابه بين الجماعات المختلفة من اليهود.
وبدراسة الوقائع التاريخية لليهود نجد خاصتين نفسيتين أوضح من غيرهما داخل العقل الجمعي ومتأصلتين كذلك في سيكولوجيا الجماهير العبرية، الأولى هي الشعور بالتمايز والعلو على الجميع، وأنهم شعب الله المختار، كما ينادون بفكرة النقاء العرقي أو نقاء الدم اليهودي وأن الجوييم (غير اليهود) إنما هم خدمٌ لليهود، أما الخاصية الثانية فهي على النقيض تمامًا ألا وهي الشعور بالاضطهاد والمؤامرة والاستهداف المباشر من قِبل الأمم والجماعات الإسلامية، مما حدا بهم إلى الانتظام في مجموعات منفصلة في أحيائها وأزقَّتها بعيدًا عن النسيج المجتمعي الشائع، ونحن الآن لسنا بصدد التحليل النفسي التفصيلي لهاتين الصفتين، ولكن ما نعنيه أن تلك الفكرة تمثل الواقع السيكولوجي والموروث الجمعي للعديد من الجماعات اليهودية.
الفكرة من كتاب تجسيد الوهم.. دراسة سيكولوجية للشخصية الإسرائيلية
أوضح قائد الطيران الإسرائيلي في حديثه -إبان حرب 1967- مفسِّرًا إقدامه على المغامرة بإرسال جميع الطائرات تقريبًا لمهاجمة المطارات المصرية، تاركًا إسرائيل دون غطاء جوي: “لقد كان رأي خبرائنا أن الصورة لن تكتمل أمام صناع القرار في مصر قبل نصف ساعة، وأنه سيمضي نصف ساعة أخرى قبل أن يقرِّر هؤلاء القادة ماذا سيفعلون، وهذه الساعة كانت كل آمالنا وعلى أساسها تم ترتيب كل توقيتات خططنا”.
أقدمت إسرائيل على تلك المغامرة بناءً على صفتين نفسيتين، وهما: التباطؤ في إبلاغ الأنباء السيئة، والتردُّد في التصرُّف حيال المواقف الجديدة، فإذا كانوا يعلمون عنا هذا القدر ويدرسوننا بهذا الأسلوب، فلا عجب فيما نواجهه منذ بدئهم الاستيطان في فلسطين سنة 1882، إن هذا الكتاب وإن كان مجرد خطوة في طريق طويل شاق لفهم الشخصية الإسرائيلية بجوانبها المعقدة، فقد أصبح الآن من مقتضيات العصر الراهن بعد تلك الموجة من التطبيع بين الأنظمة العربية الحاكمة والكيان الصهيوني.
مؤلف كتاب تجسيد الوهم.. دراسة سيكولوجية للشخصية الإسرائيلية
الدكتور قدري حفني، من مواليد 13 أغسطس 1938، حصل على ليسانس الآداب، قسم علم النفس من جامعة عين شمس، والماجستير في عام 1971، والدكتوراه في عام 1974، وقد شغل عدة مناصب أكاديمية بجامعات ومعاهد مصر والعالم العربي.
نال العديد من التكريمات العلمية والأدبية المهمة، من بينها: جائزة الدولة التشجيعية في علم النفس، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وجائزة زيور للعلوم النفسية، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، توفي في 5 يونيو 2018.
ترك الدكتور قدري حفني العديد من الكتب والدراسات الفلسفية والسياسية المهمة، كما كان له العديد من الترجمات والأبحاث النفسية والمقالات العلمية والثقافية، ومنها: “دراسة فى الشخصية الإسرائيلية (الأشكنازيم)”، و”لمحات من علم النفس: صورة الحاضر وجذور الماضي”، و”العنف بين سلطة الدولة والمجتمع”.