المجتمع ثكنة عسكرية!
المجتمع ثكنة عسكرية!
صدرت الأوامر بإنشاء الثكنات ومعسكرات التدريب قرب المدن الرئيسة بطول مجرى النيل، من أسوان إلى القاهرة وعبر الدلتا، وجرى تجنيد الرجال في الجيش ليس من أجل حملات منفردة، بل لسنوات عديدة ثم مدى الحياة، وجلب العسكريين وأسرهم للعيش داخل الثكنات، وتم توحيد الزي العسكري، وذلك لمنع المجنَّدين من الهروب من الجيش، وهكذا تم فصل المجنَّدين والعسكريين عن الجماعة المدنية وفُرِض عليهم أقصى درجات الانضباط.
وجرى إدخال مدارس التدريب العسكري للمزيد من تحديث الجيش المصري وتطويره، وفُرِض فيها قواعد موحدة تحكم الانضباط وكان يتعيَّن إخضاع الطلاب للرقابة المستمرة، ليس في الفصول فقط، وإنما أيضًا خلال مشيهم ابتغاء النزهة خارج المدرسة وخلال وقت الراحة وفي عنابر النوم، وهكذا تم استخدام هذه القوة الضاربة الجديدة في فرض النظام والانضباط على القرى التي تم تحويلها إلى ثكنات بدورها، واستخدمت في ضبط المجتمع وتمكين الدولة من رسم نمط جديد للحياة قائم على عسكرة الحياة الاجتماعية وتحويل المجتمع إلى ثكنة عسكرية.
الفكرة من كتاب استعمار مصر
يرى الكاتب أن الدولة الحديثة التي نشأت في مصر على يد محمد علي باشا -وبمعاونة أوروبية (إنجليزية وفرنسية)- إنما نشأت على شكل سجن بانوبتيكوني بالأساس، وسجن البانوبتيكون هذا هو نموذج رسمه الفيلسوف القانوني الإنجليزي جيرمي بنتام؛ وهو عبارة عن “زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسَّطها برج مراقبة” تتيح هذه الزنازين للحارس القابع في برج المراقبة أن يرى النزلاء، ولا يمكن للسجين أن يرى الحارس، ومن ثم ومع مرور الوقت يستبطن السجين نظرة الحارس ويشعر دائمًا أنه مراقب، وأن ثمة من يترصَّده.
وعلى هذا يتفق ميتشل مع الفيلسوف الفرنسي فوكو في أن الدولة الحديثة قد بنيت على شكل سجن بانوبتيكوني ضخم، بحيث يصبح الشعب سجين الدولة، والدولة هي الحارس القابع في البرج، ويستلزم بناء هذا السجن عملية تنظيم وتنشئة وتربية اجتماعية واسعة النطاق؛ تعمد إلى تغيير سلوك الشعب ونمط حياته بما يتفق وبناء الدولة الحديثة، وهكذا يتناول هذا الكتاب عملية الهندسة الاجتماعية التي صاحبت بناء الدولة الحديثة التي فتحت الطريق أمام الاستعمار الإنجليزي؛ فإن هذه العملية قد تمت أساسًا بأعين وأيدٍ أوروبية ومباركة باشاوية.
مؤلف كتاب استعمار مصر
تيموثى ميتشل Timothy Mitchell: عالم سياسة بريطاني، وأستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة نيويورك.
له مؤلفات عديدة منها: “الديمقراطية والدولة في العالم العربي”، و”دراستان حول التراث والحداثة”، و”ديمقراطية الكربون: السلطة السياسية في عصر النفط”.