تحويل العالم إلى البيروقراطية
تحويل العالم إلى البيروقراطية
تلك البيروقراطية النيوليبرالية التي تمثَّلت في الإجراءات الشكلية التي قامت بها الممرضة (س) تبيِّن لنا بكل وضوح أنه قد تم برقرطة كل شيء يساعد على التحكم في أمور المواطنين وتيسير شؤون العامة، حيث تكتظُّ حياتنا اليومية بالعديد من القواعد والإجراءات التي تفرض نفسها علينا، ومن ثمَّ نجدها تغذِّي لدينا الشعور بعدم الرضا والاستياء كونها إجراءات وقواعد لا طائل من ورائها، إلى جانب كونها لا تأخذ الواقع في الاعتبار.
فمن الأمور التي تتسم بها البيروقراطية النيوليبرالية أنها تهدف إلى تقسيم العمل وجعله يقوم على الجانب التقني العقلاني، وبالتالي تكون الحاجة ماسة إلى الحاسوبية، حيث تكون الإدارة -كما ترى بياترس- من خلال الأعداد والأرقام، أي أن القوة الاقتصادية تزداد عندما تقوم على الحساب والتقدير، لذلك نجد أن الرأسمالية تتبنَّاها لنظاميَّتها ودقَّتها المتزايدتين، أضف إلى ذلك أن العمل بموجبها لا يستتبُّ إلا عندما تسيطر الرأسمالية على المجتمع، حيث تتلاءم مع التنظيم الاجتماعي للإنتاج وتنظيم المجتمع بما يتلاءم مع غايات الإنتاج.
تلجأ المنشآت والمؤسسات عادةً إلى تكثيف استخدام نظام المحاسبة، والحث على توثيق عمليات الإنتاج وإجراءاتها، ما يعني تزايد استخدام المستندات والأوراق، إلى جانب تضخُّم الإجراءات والقواعد والمعايير والمبادئ، حيث يكمن الهدف من وراء ذلك وهو “تحليل الأداء” من خلال جمع تلك البيانات وفحصها وتحليلها وفرزها بهدف التنبؤ بالأخطار والتهديدات التي تعوق استقرار المجتمع.
كما نجد أنفسنا -كما ترى بياترس- أمام عملية “برقرطة العالم”، حيث أصبحت طريقة التفكير المتبعة تلك القائمة على معايير الإدارة العامة الجديدة، من خلال إجراءات التوحيد المعياري والأوراق والمصادقات المطلوبة اليوم في سائر المنشآت، فنجد قوانين وقواعد يجب على كل فرد أن يحترمها ويلتزم بها حتى يعتبر مواطنًا ومستهلكًا ذا وعي وإدراك، وموظفًا أو عاملًا حسن الأداء، ومهاجرًا شرعيًّا أو لاجئًا يستحق اللجوء السياسي.
الفكرة من كتاب التحكُّم البيروقراطي
ترزح المجتمعات الحديثة اليوم تحت كم كبير من الإجراءات والمعايير البيروقراطية في جميع المجالات من الأعمال التجارية والمهنية إلى الحياة اليومية وعلاج مشكلات كالبطالة والفقر، حيث يجد الإنسان نفسه خلال حياته اليومية مصطدمًا بالعديد من الإجراءات والتعليمات التي تهدر الكثير من الوقت والطاقة؛ فإذا أقدم منقذ سباحة على إنقاذ أحد الأشخاص من الغرق خارج منطقة رقابته، فإن ذلك قد يعرِّضه لعقوبة مالية -الخصم من مرتبه- أو عقوبة الفصل من العمل والسبب عدم اتباع المعايير والقواعد وفق المنطق البيروقراطي النيوليبرالي!
مؤلف كتاب التحكُّم البيروقراطي
بياترس هيبو Beatrice Hebou: أستاذة في العلوم السياسية، ومديرة أبحاث في المركز الوطني للبحوث في فرنسا، لها مؤلفات عديدة، منها: “التشريح السياسي للسيطرة”، وهذا الكتاب الذي بين أيدينا.