عصر التحولات

عصر التحولات
إن التحولات الكبرى في تاريخ الأمم عادةً ما تكون مسبوقة بمصفوفة طويلة من التغيرات البسيطة والمتعاقبة على أفكار الشعوب وقناعاتها، فالشعوب هي أداة البناء ومعول الهدم في آن واحد، ولذا فالانقلابات التاريخية من هذا المنطلق يمكن النظر إليها على أنها مجرد آثار أو نتائج للجوانب غير الملموسة من البناء النفسي للجماعات والأفراد، لا سيما إذا كان الفكر البشري يعيش الآن حالة من التطور والانتقال من طور إلى آخر أقل ثباتًا من ذي قبل، فنحن في عصر التمرد على الموروثات القديمة وخلق أبجديات عقد اجتماعي جديد يتسق مع طموحات البشرية اليوم وآمالها في المستقبل.

وعادةً ما تتسم تلك المرحلة من التحول بنوع من الاضطراب والفوضى نتيجة هذا العراك غير الظاهر بين موروث قديم يرقص رقصة الموت وبين وافد جديد يسعى لبسط سيطرته على البناء النفسي، وقد يأخذ هذا الصدام أشكالًا عنيفة نتيجة قوة الجماهير وهيبتها، فبعدما كانت في الماضي ترزح تحت وطأة الملوك ورجال الدين أصبحت اليوم من الأدوات الرئيسة في توجيه الأحداث، وبعدما كانت تدار شؤون الجماعات في غرف الساسة المغلقة، أصبحت وسائل كالسوشيال ميديا وتكنولوجيا الاتصال المختلفة تملي على الحكام تصرفاتهم، لذا كان العصر هو بحق عصر الجماهير.
ففي عصر العولمة القائمة اليوم قد يصبح تجمُّع عدد من الأفراد في حد ذاته -ولو رقميًّا- باعثًا على بلورة الأفكار، وإكسابها من القوة ما يمكنها به كسر كل الحواجز التي من شأنها أن توقفها عند حدها، ومن ثمَّ قد تصبح سببًا في قلب المجتمع رأسًا على عقب، كما أنها في اجتماعها تكون أقل قدرة على إعمال العقل أو قبول المناقشة والاعتراض وأقرب إلى الطغيان والتسلُّط، ومهما حملت تلك الظاهرة من نواحٍ إيجابية أو أخرى سلبية، ففي النهاية نحن مضطرون إلى التعامل معها شئنا أم أبينا.
الفكرة من كتاب سيكولوجية الجماهير
“إن الأسياد المتوارين الذين يسيطرون على أرواحنا يقاومون أي محاولة للإطاحة بهم، ولا يستسلمون فقط إلا للاستهلاك البطيء الذي يتم عبر القرون”.
تعدُّ الجماهير أشبه ما تكون بسيل منهمر يستحيل الوقوف في طريقه، ولكن من الممكن ترويضه والاستفادة من قوته الغاشمة، وعلى ذلك فمن يستطِع الوصول إلى تلك القوى النفسية الخفية في توجيه الشعوب والجماهير فقد امتلك بذلك مصاير الشعوب بيده، ذلك أن الأمم مُسيَّرة بتلك الموروثات من مشاعر وأخلاق واحتياجات وطبائع وشهوات وأوهام، وهذا ما يحاول المؤلف سرده في هذا السِّفر العظيم.
مؤلف كتاب سيكولوجية الجماهير
غوستاف لوبون : طبيب ومؤرخ فرنسي، وواحدٌ من أشهر المؤرخين الأجانب الذين اهتموا بدراسة الحضارات الشرقية والعربية والإسلامية، ولد في مقاطعة نوجيه لوروترو، بفرنسا عام ١٨٤١م، وقد درس الطب، وقام بجولة في أوروبا وآسيا وشمال أفريقيا، واهتم بالطب النفسي، وأنتج فيه مجموعة من الأبحاث المؤثرة عن سلوك الجماعة، والثقافة الشعبية، ووسائل التأثير في الجموع، ما جعل من أبحاثه مرجعًا أساسيًّا في علم النفس، وقد تُوفِّيَ في ولاية مارنيه لاكوكيه، بفرنسا 1931م.
من مؤلفاته: “حضارة العرب”، و”روح الثورات والثورة الفرنسية”، و”روح الجماعات”، و”السنن النفسية لتطور الأمم”، و”روح الاجتماع”.
معلومات عن المترجم:
هاشم صالح: كاتب ومفكر ومترجم سوري، وُلد في العام 1950، أنهى مرحلة دبلوم الدراسات العليا بجامعة دمشق كلية الآداب، وعمل بعدها معيدًا في كلية الآداب جامعة حلب بسوريا، ونال منحة دراسية لدرجة الدكتوراه إلى جامعة السوربون، كما ناقش رسالة الدكتوراه عام 1982 عن الأدب والنقد الأدبي العربي، وله العديد من المؤلفات منها: “مدخل إلى التنوير الأوروبي”، و”الانسداد التاريخي”.