رجل غير مرئي

رجل غير مرئي
في صباح يوم الأحد، وصل إلى بول خبر وفاة والده، وكان يعد طعام الإفطار، وكان ذهنه مشغولًا بتصوُّرات كثيرة عن قطعة أدبية مضى ليلته كلها وهو يكتبها، لكن رنَّ الهاتف بخبر وفاة والده في الثامنة صباحًا، وقت لا تصل فيه إلا الأخبار التي لا يمكن تأجيلها، وهي دومًا أخبار كريهة، وبعد تلقِّي الخبر وحزم الحقائب للسفر، أحسَّ بول بأنه لا بدَّ من الكتابة عن والده فورًا، ولم تكن لديه أي خطَّة لذلك، لكن امتلكه إحساس أن حياة والده ستتلاشى بأكملها مع وفاته.

وتعجَّب من نفسه عند تلقِّيه الخبر وبعد مرور فترة، حيث لم تذرف عيناه دمعًا، ولم يشعر بألم الانفصال عن العالم، وكأنه كان مستعدًّا على نحو واضح ليقبُّل هذا الموت المفاجئ، لكن ما شوَّشه حقًّا، كان أمرًا لا علاقة له بالموت أو ردَّة فعله، بل اكتشافه بأن أباه لم يترك وراءه أي أثر، لا زوجة لديه، ولا أسرة تعتمد عليه، فقط بعض الأصدقاء المتفرِّقين، عاشوا فترة حداد قصيرة جدًّا، وانتهى كل شيء بعدها، حيث كان أبوه دائم الغياب، حتى قبل رحيله اعتاد القريبون على تقبُّل عزلته وغيابه عنهم، لهذا لم يكن صعبًا على العالم استيعاب حقيقة غيابه الأبدي.
وكان والد بول يخلو من الشغف تجاه أي شخص أو شيء أو فكرة، لا يستطيع كشف نفسه أبدًا، أو كان من الأساس لا يرغب في ذلك، كان يبعد عن الحياة وملذَّاتها حتى لا ينغمس فيها، فعلى الرغم من تناوله للطعام ولعبه للتنس وخروجه مع الأصدقاء، فإنه لم يكن حاضرًا، وكأنه كان يشعر بأنه شخص غير مرئي، خفي عن الجميع، والأرجح حتى عن نفسه، ويشعر هنا “بول” بالندم على عدم معرفته لوالده كفاية قبل موته، وأنه لن يوقف محاولاته للبحث عن والده حتى بعد وفاته، حيث عاش وحيدًا مدة خمسة عشر عامًا، عنيدًا، غامضًا، محصنًا ضد العالم.
الفكرة من كتاب اختراع العزلة
ما من أمر باقٍ في أمور الحياة سوى الموت؛ هذه هي الحقيقة التي لا يمكن تبسيطها، يستطيع الأشخاص أن يرضوا بالموت ويرضوا بوقوعه بعد طول مرض، وأحيانًا يرجعونه إلى القدر في الحوادث العرضية، لكن أن يموت رجل دون سبب واضح، أن يموت لأنه رجل وحسب! فهذا ما يقرب الأشخاص من الحد الخفيِّ بين الحياة والموت!
يعدُّ هذا الكتاب مذكِّرات عن والد الكاتب بول أوستر الذي تُوفِّي على نحو غير متوقَّع.
مؤلف كتاب اختراع العزلة
بول أوستر Paul Auster: كاتب ومخرج أمريكي، ولد في 3 فبراير عام 1947، كان عضو الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب، وتعد كتاباته خليطًا بين العبثية والوجودية وأدب الجريمة، والبحث عن الهوية والمعاني الإنسانية، وقد ترجمت كتبه لأكثر من أربعين لغة.
وأبرز أعماله:
قصر القمر.
كتاب الأوهام.
ثلاثية نيويورك.
موسيقى الصدفة.
حماقات بروكلين.