حيرة القلب والروح
حيرة القلب والروح
في مطلع القرن العشرين اضطربت كل القيم الأخلاقية تحت تأثير الحرب العالمية الأولى، ومن ثم ساد شعور المرارة والأسى وانعدام الأمن في المحيط الفكري والاجتماعي، ففي ظل غياب القيمة الأخلاقية ليس هناك إجابات شافية؛ فالعلم يقول إن المعرفة هي كل شيء، ولكن المعرفة دون وازع أخلاقي تؤدي إلى فوضى مهلكة، ولجأ الشيوعيون الثوريون إلى تعويض النقص في مذاهبهم الفكرية بإسنادها إلى ميتافيزيقا غير مثيلتها الدينية، ولجأ المتدينون إلى إلصاق صفات بمعنى الألوهية مستخلصة من الفكر المادي، ما أدَّى بها إلى قوالب جامدة خالية من المعنى، أما الشباب فرؤيتهم أن الصفات الملحقة بمعنى الألوهية تعني أن لا إله في ظل مشاهدات الفوضى العالمية، ما أدى بالبعض إلى فوضى أخلاقية كاملة أو دفع البعض الآخر للبحث عن قناعة شخصية للوصول إلى ما يشكِّل معنى الحياة الطيبة.
ومن هذا المنطلق شرع محمد أسد في دراسة تاريخ الفن، ولكنه عدل عن ذلك لأن أساتذته يركِّزون على الجانب الشكلي دون النظر في عمق وجوهر الأشياء ومن ثم توجَّه إلى التحليل النفسي، ولكن لم يعجبه اختزال نفسية الإنسان إلى مجرد ردود أفعال عصابية مرضية، فلم يكن لديهم ما يهدي إلى الحياة الطيبة والنفس السوية والتركيز على المبادئ النظرية دون الأنشطة والعلاقات الإنسانية، وبدأ محمد أسد يلتفت إلى التغييرات الشاملة بعد الحرب وانهيار الحواجز بين الجنسين والكتابة عن حرية الجسد وتحوُّل الأخلاق إلى النسبية على يد الفلاسفة، ما دفعه إلى هجر الدراسة والاتجاه إلى الكتابة الصحفية، وودع فيينا إلى برلين، وظل يمارس الجوع والتشرُّد حتى خريف عام 1921م عندما نشر حديثًا صحفيًّا مع زوجة أحد الأدباء الروس، وكان ذلك ضربة صحفية ناجحة وانفتحت له على إثرها أبواب الكتابة الصحفية، وكان هذا بمثابة نقلة مهمة لمجرى حياته لخبرات واسعة وطريق رحلته إلى الشرق.
كانت الديانة الأوروبية السائدة في ذلك الوقت هي ديانة التقدم المادي، ومع ظهور تلك الديانة برزت الخلافات العميقة حول الخير والشر، وخضعت القضايا الاجتماعية والاقتصادية لقاعدة السرعة واللهث وراء المتع والشهوات والتعارض بين المصالح والأهواء وترسيخ قاعدة النفعية المطلقة، وفي ظل هذا المناخ شعر محمد أسد بالاضطراب والتعاسة لتمزُّق العلاقات الإنسانية، ولم يشاركهم أحلامهم المتطلِّعة لمستقبل أفضل، بل كان يتنامى بداخله شعور اللانتماء إلى هذا الكيان.
الفكرة من كتاب محمد أسد.. سيرة عقل يبحث عن الإيمان
يَندُر أن يصادف المرء شخصية يؤمن صاحبها عن فَهم ويعمل بمقتضى إيمانه، شخصية يتطابق فيها عمق الإيمان مع قوة الإرادة واستقامة السلوك، وأكثر من هذا ندرة أن تتوافر هذه الخصال في شخص لا تتوافر في بيئته ومجتمعه عوامل تدعم هذه الخصال، بل تتوافر عوامل معاكسة مثبِّطة، وهذا هو شأن الصالحين والمصلحين في مجتمعاتهم.
وفي هذا الكتاب لا يسرد الكاتب سيرة محمد أسد سردًا تاريخيًّا من المولد إلى الوفاة، ولكنه يرصد التحولات العقلية لصاحبها خطوة بخطوة حتى انفتحت في وعيه شرارة كشفت له الكون ليرى موقعه الذي اختاره الله له.
مؤلف كتاب محمد أسد.. سيرة عقل يبحث عن الإيمان
محمد يوسف عدس: مفكر وفيلسوف مصري، ولد في قرية بهوت بمحافظة الدقهلية عام 1934م، تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة، عمل مديرًا للمركز الثقافي بالفلبين، وأمينًا عامًّا لمكتبة المعهد العالي للتكنولوجيا بأستراليا ثم أمينًا للمكتبة القومية بأستراليا ثم خبيرًا للمكتبات بمنظمة اليونسكو، ثم مديرًا لمكتبات جامعة قطر، تفرَّغ لدراسة القضايا الإسلامية المعاصرة في التاريخ الحديث.
من أشهر مؤلفاته: “البوسنة في قلب إعصار”، و”الحرب الشيشانية بين التأليف والتزييف”، توفي في أستراليا عام 2017 عن عمر يناهز الـ 83 عامًا.