بين متطلبات الإبداع والحياة الاجتماعية

بين متطلبات الإبداع والحياة الاجتماعية
يظن بعض الناس أن أعمال المبدعين أشياء خارقة صادرة عن وحي غامض، بَيدَ أن الصحيح هو أن المبدعين تميزوا نتيجةَ للاستغراق والتفاني في العمل؛ وهم يعرفون ما يريدون ولا يسمحون للصعوبات أن تصدهم عن طريقهم الطويل، فالعبقرية نتاج آلاف الساعات من الجهد والتركيز وليس ثمة طريق مختصرة له، والأمثلة على ذلك كثيرة: فنبوغ موتسارت لم يظهر إلا بعد 15 سنة من التدريب المكثف، ورُوي عن أرشميدس أنه كان ينسى ضروريات حياتية بسبب استغراقه في التفكير والعمل، واشتهر نيوتن بقدرته على التركيز الشديد.

ويتعرض المبدعون خلال المراحل المختلفة للعمل الإبداعي بما يُسمى “اللحظات الحرجة”، والتي لها أثر كبير في الحمية والاندفاع للعمل أو الخمود وفقدان الحماس؛ ولكلا الأمرين آثار تظهر في مشاعرهم وسلوكياتهم، وقد يُفسر ذلك التركيز والتفاني وهذه المشاعر والسوكيات خطأً بالشذوذ والمرض، ويمثل الأمان المادي والقدرة على استيفاء مطالب الحياة وحاجات الأسرة ضغطًا إضافيًّا في حياة المبدعين، خصوصًا أن قلة قليلة منهم استطاعت أعمالهم الإبداعية أن توفر لهم الكفاية المادية دون الحاجة إلى وظيفة إضافية، فضلًا عما قد يتطلبه العمل الإبداعي نفسه من مصروفات لا سبيل له إليها.
ويمثل كذلك صراع الأدوار المتعددة معاناة أخرى تُفقد المبدع التوازن في حياته الاجتماعية وعلاقاته مع الآخرين؛ فهو بجانب وظيفته الإبداعية مطالب بواجبات تجاه زوجته وأبنائه، وقد يكون في الوقت نفسه ابنًا عليه التزامات تجاه والديه، أو موظفًا يتحمل أعباء الوظيفة، ويجد المبدع نفسه مشتتًا بين كل هذه الأدوار، ويعاني الفجوة بين ما يتوقعه من نفسه وما يتوقعه الآخرون منه، فيصبح مهيأ للاستثارة الانفعالية، ويُأول ذلك على نحو خاطئ أو مبالغ فيه، فيؤثر في رضاه عن نفسه، مما قد يجره إلى إدمان الكحوليات والعقاقير المخدرة أو الهروب إلى العزلة الاجتماعية؛ فتتدهور حالته الصحية والنفسية، لذا يحتاج غالبية المبدعين إلى طلب استشارة اختصاصي الصحة النفسية وممارسة التدريبات السلوكية التي تعيد إليهم السواء النفسي، ولا يغنيه ذكاؤه وإبداعه عن ذلك.
الفكرة من كتاب الحكمة الضائعة
ما زلنا نقرأ في سِيَر المشاهير من المبدعين والعباقرة في مختلف المجالات ما اعترض حياتهم من مس الجنون والأمراض النفسية والاضطرابات الوجدانية والسلوكية؛ فقد حكى العقاد معاناته النفسية التي مر بها خلال شبابه، وروى أنيس منصور محاولة انتحاره، وعانى الشاعر عبد الرحمن شكري الاضطرابات الوجدانية حتى رُمى بالجنون، وقضت مي زيادة حياتها الأخيرة في مشفى العصفورية للأمراض النفسية.
وخارج حدود الوطن العربي الأمر أوضح؛ فقد كان سلوك كلينتون تجسيدًا لمرض انفصام الشخصية، وضَرَب الاكتئاب والاضطراب النفسي عددًا من مشاهير الأدب والسياسة أمثال أبراهام لينكولن وتشرشل وثيودور روزلفت وكافكا وڤان جوخ، وختم نيتشه حياته بالجنون، كما أنهت فيرجينيا وولف حياتها بالانتحار.
فهل هناك صلة حقيقية بين الإبداع والمرض النفسي؟ أم أن الإبداع نفسه هو شكل من أشكال الجنون كما يزعم بعض أتباع المدرسة الفرويدية؟ أم ربما لكاتبنا رأي آخر يدحض كل هذا بناء على براهين علمية ودراسات مثبتة؟
مؤلف كتاب الحكمة الضائعة
د. عبد الستار إبراهيم: كاتب وأستاذ علم النفس الإكلينيكي ورئيس قسم الطب النفسي بكلية الطب بجامعة الملك فيصل، واستشاري الصحة النفسية بمستشفى الملك فهد، وعضو في جمعية الصحة العقلية التابعة لمنظمة الصحة الدولية وجمعية الصحة النفسية الأمريكية.
مُنح الكثير من الجوائز لإسهاماته العلمية الرفيعة، ونشر نحو مئة من الأبحاث والمقالات في مجلات علمية مختلفة، وللكاتب مؤلفات قيمة، أبرزها:
أسس علم النفس.
الإنسان وعلم النفس.
القلق قيود من الوهم.