المعرِّي وسؤال المصير
المعرِّي وسؤال المصير
لا نعرف بالضبط لماذا كَتَبَ أبو العلاء “رسالةَ الغفران”، التي صنفها ردًّا على رسالةٍ لابن القارح، تناولَ فيها حديثًا عن الزنادقة والمبتدعين، بل يظن الكاتب أن المعري نفسه فوجئ بفيض الكلام ينزل عليه فانساق معه، هذه الحيرة أصلها أن المعري لم يجب ابن القارح على سؤاله مباشرةً، إنما استهله بمقدمة طويلة تربو على نصف الكتاب وصف فيها مشاهد القيامة وأحوال الجنة والنار ومن انتهى بهم المآل إليهما، وذكر أحوال الشعراء، امرئ القيس وعبيد بن الأبرص وطرفة بن العبد وبشار بن برد وغيرهم، والأعجب أنه أدخل بعضهم الجنة وهو جاهلي لم يدرك الإسلام، وبعضهم النار وقد كانوا في صدر الإسلام، ثم في النصف الثاني يرد على تساؤلات ابن القارح عن المبتدعة -حسب وصفه- أمثال ابن الراوندي والمتنبي وغيرهما، لتصير هذه المقدمة التخيلية أصل الكتاب وموضع الاهتمام أكثر من متن الكتاب نفسه.
السؤال الذي يتكرَّر على الشعراء بشكل أو بآخر في الرسالة: “بم غفر الله لك؟ كيف وصلت إلى الشفاعة؟”، والإجابة -حسب المعرِّي- تكون بيتًا من الشعر قاله هذا الشاعر، شريطة أن يكون مضمونه منسجمًا مع الدين، فعبيد بن الأبرص الشاعر الجاهلي غُفِر له بسبب بيته “من يسأل الناس يحرموه.. وسائل الله لا يخيب” الذي سار به الناس في الآفاق، فلم يزل يُنشَد ويخفِّف عنه العذاب، حتى شملته الرحمة ببركة هذا البيت.
غير أنَّ المعري في النصف الثاني من الرسالة لم يخُض في معاصريه أو المُحدَثين من أصحاب البدع، بل إنه تراجع عن بعض ما صدر عنه من أحكام في القسم الأول عند حديثه عن بشار بن برد والحكم عليه بالنار، فقال: “ولا أحكم عليه بأنه من أهل النار”.
لكن المعري لم يسلم ممن حدَّدوا مآله وهو حي يُرزق، فحكموا عليه بالكفر والإلحاد، ومنهم من رآه في منامه وقد غفر الله له، ولكن من أين لنا أن نعلم على وجه الحقيقة؟ يجيبنا المعري في رسالة الغفران قائلًا: “وسرائر الناس مخفية، وإنما يعلم بها علام الغيوب”.
الفكرة من كتاب أبو العلاء المعري أو متاهات القول
تتبَّع المؤلف في هذا الكتاب بعض المحطات في رحلة الأديب الألمعي والشاعر المشهور، الملقب بشاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء، أبي العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعرِّي.
إن المعرِّي أشهر من أن يُعرَّف، فهو من سار بذكره الركبان، وطبقت شهرته الآفاق وكثرت أخباره وتفاصيل أحواله، من قال عن نفسه: “وإنــي وإن كــنــتُ الأخــيـرَ زمـانُهُ.. لآتٍ بــمــا لم تَــسْــتَـطِـعْهُ الأوائل”، لكن هذه الأخبار بحاجة إلى من يمحِّصها بعين الناقد الثاقب والأديب الواعي، وهذا الكتاب يحاول مد يد العون لكل من حاول السير في متاهات أبي العلاء المعري.
مؤلف كتاب أبو العلاء المعري أو متاهات القول
عبد الفتاح كيليطو، أديب وكاتب مغربي، ولد في عام 1945م، يعمل أستاذًا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، ويعد من أشهر نقاد الأدب واللغة المغاربة في العصر الحديث، وهو يكتب بالعربية والفرنسية، من أشهر مؤلفاته: “جدل اللغات”، و”لن تتكلم لغتي”، و”من شرفة ابن رشد”، وغيرها، وتُرجِمت أعماله إلى عدة لغات.