المادية في التاريخ
المادية في التاريخ
تعد الداروينية الاجتماعية فلسفة علمانية شاملة، واحدية عقلانية مادية كمونية تنكر أي مرجعة غير مادية، تستبعد الخالق عن المنظومة المعرفية والخلقية، وترد العالم بأسره إلى مبدأ واحد يكمن في المادة وتدور في نطاق الصورة المجازية العضوية والآلية للكون، والآلية الكُبرى للحركة هي الصراع والتقدم اللانهائي، والقوانين التي تسري على عالم الطبيعة والغابة هي ذاتها التي تسري على الظواهر الإنسانية والتاريخية والاجتماعية، كما أن العلاقات بين الكائنات الحية الطبيعية لا تختلف عن العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات الإنسانية، فكل الأنواع العضوية ظهرت من خلال عملية التطوُّر، وقد تمت عملية التطوُّر من خلال صراع دائم بين الكائنات والأنواع، والكائنات بإمكانها تحقيق البقاء من خلال التكيف البرجماتي مع الواقع، فتتلوَّن بألوانه وتخضع لقوانينه، أو تحقِّق البقاء من خلال القوة وتأكيد الإرادة النيتشوية على الواقع، فالبقاء من نصيب الأصلح القادر على التكيف وفرض إرادته.
ومهما كانت آلية البقاء فلا علاقة لها بأية قيم مطلقة متجاوزة، فالبقاء هو القيمة المحورية في المنظومة الداروينية، فالإيمان بالتقدُّم والحتمية التاريخية شكل من أشكال التطورية، فالفكر العرقي الغربي هو فكر تطوري، إذ يرى أن الإنسان الأبيض هو آخر حلقات التطور وأعلاها، ولذا فله صلاحيات وحقوق مختلفة متميزة عن باقي الأعراق، كذلك أيديولوجيا النازية التي طبَّقت القوانين الطبيعية بصرامة، وذلك من خلال محاولات تحسين النسل عبر تنظيم علاقات إخصاب تؤدي إلى إنجاب أطفال آريين أصحَّاء، والفكر الصهيوني، مثله مثل الفكر النازي، فالصهاينة قاموا بغزو فلسطين باسم حقوقهم اليهودية المطلقة التي تطغى على حقوق الآخرين.
وما يقوم على الفلسفة الداروينية الاجتماعية هي الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية الشاملة هي رؤية شاملة للعالم، عقلانية مادية، ترتكز على المرجعية الكامنة، فالعالم بأسره مكون من مادة واحدة، ليس لها أي قداسة، وهي في حركة دائمة لا غاية ولا هدف لها، ولا تكترث بالخصوصيات أو الثوابت. فهي فصل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية المتجاوزة عن العالم، فالهدف من وجود الإنسان في الأرض هو زيادة معرفة قوانين الحركة والطبيعة البشرية من أجل الهيمنة عليها من خلال التقدم المستمر الذي لا ينتهي.
فالإنسان الطبيعي لا حدود ولا قيود عليه، مُتمركز حول منفعته ولذته المادية وبقائه المادي، ولكن بدلًا من مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض في الكون، فيفرض الإنسان الأبيض تلك الرؤية على مستوى الخارج العالمي عبر إطلاقه للجيوش إلى كل أرجاء العالم، وعلى مستوى العالم الداخلي بتوظيف البنية المادية والاجتماعية للمجتمعات الغربية من أجل تعظيم توظيف الموارد البشرية.
كما أن العقل المادي عنصري، فهو يرى البشر باعتبارهم أعراقًا وأجناسًا مختلفة لا يربط بينهم رابط، فالبعض قوي متفوق والبعض ضعيف متخلِّف، لذا يحقُّ للقوي المتفوق أن يبيد أو يوظف الضعيف المتخلِّف، فأصبح الغرب يرى تفوُّقه باعتباره حقيقة علمية تساندها نظرية داروين، فالقيمة الأساسية هي البقاء، والذي آليته الصراع المُسلَِّح.
الفكرة من كتاب الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان
يقدم هذا الكتاب دراسة نقدية للفلسفة المادية التي تُشكِّل البنية الفكرية للعديد من الفلسفات الحديثة مثل الماركسية والبراجماتية والداروينية، فيُبيِّن مواطن قصورها في تفسير ظاهرة الإنسان، وذلك من خلال وضع الفروق الأساسية بين الظاهرة المادية والظاهرة الإنسانية، بالإضافة إلى توضيح أثر تلك الفلسفة في المجتمعات القائمة عليها، ولماذا أصحاب تلك الفلسفة تحديدًا يكنُّون نزعة عدائية تجاه الإنسان.
مؤلف كتاب الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان
عبد الوهاب محمد المسيري: مفكر وعالم اجتماع مصري، وُلد في مدينة دمنهور عام 1938، التحق بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، وعُيِّن معيدًا فيها عند تخرجه، انتقل إلى الولايات المتحدة للحصول على الماجستير ثم على الدكتوراه، كما عمل بالتدريس في جامعة عين شمس وفي عدة جامعات عربية.
أبرز كتبه: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية – رحلتي الفكرية – العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، وغيرها.