السياسة التي لا دين لها
السياسة التي لا دين لها
أصبح الناس وقد رأوا دولتهم يرثها بيت معين يحتكر الزعامة لنفسه، فنقض كل ما سنه النبي والراشدون من بعده، وتلك السنة بتقديم الأكفاء ولو كانوا عبيدًا وتأخير الكسالى ولو كانوا ذوي شرف ومكانة، اكتفت منها بيوت الجاهلية، وأبطلتها مع أول فرصة. وأحيا الاستبداد بالحكم والرأي جميع ما جاهد المسلمون في إخماده، من النزعة العصبية والتنافس المُستميت بين البيوت والقبائل، وإبطال سنة الشورى والنصح للملوك، ورأى العامة القصور بأسوارها الحجرية، إيذانًا بملك مُترف لا يمت بصلة للحكم الرشيد الذي سبقه، وهذا التفاوت الحاد في أحوال الأمة لا يعود إلى صفة خلقية في العرب، بل هو الاستبداد السياسي والحكم المطلق حين يطلق له العنان، فيبني لنفسه ويهدم للبقية.
والواقع أن حظ المسلمين من العلوم والثقافة كان أكبر بكثير من حظوظهم مع الملوك والسياسة، وعلماؤهم هم الذين صانوا بيضة الدين ونقلوه إلى الأجيال التي تلتهم، ولو ترك الأمر إلى الحكام وشيعتهم، ما كان هذا الاتساع الجغرافي والامتداد الزمني للثقافة الإسلامية. ولم تنفذ تلك العصبية والعنصرية البغيضة إلى أروقة العلم، فلم ينحصر عند جنس معين، واجتمع الناس على العلماء يفهمون منهم أصول دينهم، ويحتمون بهم من بطش الملوك، غير أن هذا البطش لم يترك العلماء لوقت طويل، فسرعان ما أخذت تلك الهوة بين السلطان والعلم، التي حافظ العلماء على بقائها، بالضيق شيئًا فشيئًا، واقتحمت السياسة والحكم تلك الصوامع على العلماء، ولم يرض منهم الحكام بهذا التباعد، ورفض العلماء أن يبيعوا أنفسهم بعرض من الدنيا، أو أن يكونوا وسيلة لتبييض وجوه السلاطين، وهكذا استشرت السياسة في دولة المسلمين، حتى انتزعت نفسها من قيود الدين وتسلطت على السلطان فألبت الأمة على بعضها، وفتتتها إلى فرق متناحرة، يستعين كل منهم بعدوهم الظاهر على أخيه، وليس هذا إرث الدين، بل السياسة والاستبداد اللذان لا دين لهما.
الفكرة من كتاب الإسلام والاستبداد السياسي
ليست ظاهرة الاستبداد بالحدث الطارئ في التاريخ الإسلامي، فقد اختبر المسلمون الحكام المستبدين أكثر من أي نوع آخر، وأحدث هؤلاء الحكام العديد من الأفعال التي صارت بعدهم قوانين تطغى على الدين وتهمل وصايا النبي ﷺ، وقد زاد الاستعمار الحديث الأمر وبالًا، فاختلط الأمر على القوم، وظنوا أن منبع هذا الاستبداد من الدين نفسه، لادعاء هؤلاء الحكام خلافته في الأرض.
هنا يحاول الشيخ أن يرد الأمر إلى حقيقته، ويبين موقف الدين تجاه هذه النماذج، وكيف تعامل معها المسلمون طوال تاريخهم.
مؤلف كتاب الإسلام والاستبداد السياسي
محمد الغزالي: داعية ومفكر إسلامي، وأحد أشهر الدعاة في العصر الحديث، ولد في إيتاي البارود بمحافظة البحيرة عام 1917 م، ختم القرآن بكتاب قريته في العاشرة من عمره، تخرج في كلية أصول الدين بجامعة الأزهر، وحصل على درجة العالمية وهو في السادسة والعشرين، درس في العديد من الجامعات الإسلامية، كجامعة الأمير عبد القادر في الجزائر، وجامعة أم القرى في مكة، توفي عام 1996 م في المملكة العربية السعودية، له العديد من المؤلفات الهامة؛ منها:
الإسلام والمناهج الاشتراكية.
السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث.
فقه السيرة.