الانضغاط الكبير والمساواة

الانضغاط الكبير والمساواة
إن العصر المموَّه الطويل كما في أمريكا اليوم، شاعت فيه الانقسامات الثقافية والعرقية التي كانت موجودة بين أولئك الذين اشتركوا في المصالح الاقتصادية المشتركة، فمنعت ظهور أي تحدٍّ سياسي فعَّال للامساواة الاقتصادية المفرطة، كما أنه خلال العصر المموَّه كانت هناك أيديولوجية استبدادية تشبه إلى حدٍّ كبير الدعاية المحافظة اليوم في أمريكا، إذ افترض أن فرض الضرائب على الأغنياء له آثار اقتصادية مدمرة، وأن أي جهد للحدِّ من الفقر واللامساواة هو جهد غير مسؤول، وكان أي شخص يقول إن الرأسمالية غير المخَّففة غير عادلة، كان يوصف بأنه شخص راديكالي خطر، وملوَّث بالأفكار الأوروبية، وهذا لا ينفي أنه كان يوجد بالفعل راديكاليون خطرون بالفعل، كالشيوعيين والفوضويين خصوصًا بعد الثورة الروسية، وهؤلاء أعطوا الضوء الأخضر للمحافظين لمنع أي إصلاح، إذ اعتقلت الحكومة الأمريكية آلافًا بتهمة النشاط الراديكالي، وهو ما يشبه حالة الذُّهان الهذائي (البارانويا) التي استحوذت على الأمة الأمريكية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ما أدَّى إلى تشويه سمعة الليبراليين العاديين الذي اعتقدوا أنه بالإمكان جعل الرأسمالية أكثر عدلًا دون إلغائها.

إن أمريكا في الخمسينيات من القرن العشرين كانت على العكس تمامًا، فقد أصبحت مجتمع الطبقة الوسطى إلى مدى بعيد، إذ أصبحت كلها من نوعًا واحدًا، وضاقت الاختلافات الاقتصادية، وأغلقت فجوة الراتب بين العمال غير المهرة وأشباه المهرة والأكثر مهارة، ووصل الأمر إلى أن جميع البلدات ومنها الصغيرة، وأشدَّها عزلة، كانت تلبس ملابس الطبقة الوسطى، وأصبح الأغنياء لا يزدادون غنى، بل صاروا أقل غنى مما سبق، وصار العمَّال العاديون وعائلاتهم يشعرون بالرفاهية بخلاف أي وقت مضى.
إضافةً إلى ذلك أصبح الأغنياء غير قادرين على العيش في الدور الضخمة كما في السابق، بسبب عدم قدرتهم على استخدام الخدم الضروريين لصيانة تلك الدور، إلى جانب أن العمل في تلك الدور الأسطورية الضخمة أصبح عملًا أقل جاذبية للعمَّال، إن هذا الهبوط المفاجئ في ثروات الأغنياء يمكن تفسيره بكلمة واحدة (الضرائب)، ففي العشرينيات كان أعلى معدَّل لضريبة الدخل 24٪ فقط، وضريبة العقارات 20٪، بينما في الخمسينيات ارتفعت ضريبة الدخل إلى 63٪ في إدارة روزفلت الأولى، وارتفعت مرة أخرى في إدارته الثانية حتى وصلت إلى 73٪، وارتفعت ضريبة العقارات تدريجيًّا حتى وصلت إلى 77٪، وبناءً على ذلك أصبحت ملكية الثروة أقل تركيزًا في يد الأغنياء، ما خلق جوًّا من الرفاهية العامة.
الفكرة من كتاب ضمير ليبرالي
يبيِّن الكاتب في هذا الكتاب أن تاريخ اللامساواة في الولايات المتحدة الأمريكية راجع إلى خطط سياسية حكومية مستهدية بحركات سياسية منظَّمة، إذ وُجدت أطراف كانت تدافع عن اللامساواة مستغلة الانقسامات العرقية والثقافية لمصلحتها، ما أدى إلى تركيز الثروة في يد عدد قليل للغاية من الناس ما منع ظهور الطبقة الوسطى خلال القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، وظل الأمر على هذا الوضع حتى مجيء فرانكلين روزفلت رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، إذ قام بوضع برنامج إصلاحي (برنامج الإصلاح الجديد) أدى إلى تقليل فجوة الثروة والدخل، وظهور الطبقة الوسطى، وتقليص عدد الأغنياء عن طريق فرض الضرائب التصاعدية، وتأمين البطالة، والضمان الاجتماعي، فشهدت الولايات المتحدة الأمريكية بذلك فترة من رعاية الرفاهية العامة، إلا أنه مع بداية الستينيات ظهرت حركة المحافظين الجدد التي أرادت أن تخصخص المؤسسات التي أنشئت نتيجة برنامج الإصلاح الجديد، واستطاعوا أن يكوِّنوا قاعدة شعبية لهم، أدت في النهاية إلى انقراض الطبقة الوسطى تدريجيًّا، وتركيز الثروة في يد قلة قليلة من الناس.
مؤلف كتاب ضمير ليبرالي
بول كروغمان: هو اقتصادي أمريكي، وأستاذ الاقتصاد في مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك، وكاتب عمود في صحيفة نيويورك تايمز، فاز بوسام “جون بيتس كلارك”، وهو أثمن جائزة تمنح للاقتصاديين الأمريكيين، وحاصل على نوبل في الاقتصاد عام 2008، يدرِّس علم الاقتصاد والعلاقات الدولية في جامعة برنستون الأمريكية.
معلومات عن المترجم:
محمد محمود التوبة: هو كاتب، ومترجم فلسطيني، من ترجماته:
انتحار الغرب.
سرقة التاريخ.
طريق الصين.