التنشئة الاجتماعية
التنشئة الاجتماعية
بعدما ألمحنا بإيجاز إلى الأعراق البشرية المكوِّنة للنسيج المجتمعي في الدولة العبرية، آن لنا الآن أن نقترب أكثر من رجل الشارع العادي في المجتمع الإسرائيلي، لكي نتلمَّس طريقة تفكيره وتصرُّفه إزاء المواقف العصيبة ورؤيته للحياة، كمحاولة لاكتشاف ما يطلق عليه علماء النفس الطابع العام للشخصية، فما من مجتمع إلا ويحوي قدرًا من التشابه والاختلاف بين أفراده، ولفهم ديناميكية هذا الطابع الشخصي يتحتَّم علينا الرجوع إلى التنشئة الاجتماعية بوصفها مفتاحًا لفهم التكوين السيكولوجي لأي جماعة من البشر.
وفي نظرة فاحصة إلى نشأة الفرد داخل الكيان الصهيوني، نجد العديد من الأدوات الفاعلة التي تتحكَّم في رسم الملامح الأساسية لشخصيته، فالطفل ما إن يرى الحياة حتى يخضع للعديد من المحدِّدات تُسهم على نحو واضح في تشكيل واقعه النفسي كالأسرة والشارع والميديا والعادات والتقاليد واتجاهات الرأي العام، بالإضافة إلى المؤسسات والمنظمات الاجتماعية المتباينة الوظائف، فكل تلك العناصر تعمل على خلق نموذج مثالي وفق تصوُّرها الخاص وغرسه في النشء الصغير، ورغم أن هناك من يمكنه الإفلات من شبكة الصيد تلك فإنها تبقى نماذج فردية مقارنةً بالعدد الكبير من الفرائس التي تسقط.
ويمكن القول إن تكوين الشخصية الصهيونية المستقلة يتطلَّب التخلُّص من الخلفية العرقية الأشكنازية أو السفاردية، عبر موجات متتالية من عمليات الصهر والدمج المجتمعي، ولكن ما زالت تلك العملية تلقى عدة عقبات سياسية وعرقية، بل ودينية أحيانًا، ذلك أن التفسُّخ الحادث في الشخصية اليهودية بفعل الشتات عبر آلاف السنين لا يمكن أن ينتهي في بضع سنوات قليلة، فالقانون النفسي لأي جماعة بشرية بطيء التحوُّل ويلزمه تعاقب بعض الأجيال لتغيير الموروثات النفسية المتوارثة، وتبقى قضايا مثل التطبيع وكيفية التعاطي مع عملية السلام والاندماج مع العرب محل جدال كبير لاصطدامها مباشرةً بالثوابت الصهيونية، والتي يعد الخروج عليها بمثابة الشذوذ الأزلي على الموروث النفسي للمجتمع.
الفكرة من كتاب تجسيد الوهم.. دراسة سيكولوجية للشخصية الإسرائيلية
أوضح قائد الطيران الإسرائيلي في حديثه -إبان حرب 1967- مفسِّرًا إقدامه على المغامرة بإرسال جميع الطائرات تقريبًا لمهاجمة المطارات المصرية، تاركًا إسرائيل دون غطاء جوي: “لقد كان رأي خبرائنا أن الصورة لن تكتمل أمام صناع القرار في مصر قبل نصف ساعة، وأنه سيمضي نصف ساعة أخرى قبل أن يقرِّر هؤلاء القادة ماذا سيفعلون، وهذه الساعة كانت كل آمالنا وعلى أساسها تم ترتيب كل توقيتات خططنا”.
أقدمت إسرائيل على تلك المغامرة بناءً على صفتين نفسيتين، وهما: التباطؤ في إبلاغ الأنباء السيئة، والتردُّد في التصرُّف حيال المواقف الجديدة، فإذا كانوا يعلمون عنا هذا القدر ويدرسوننا بهذا الأسلوب، فلا عجب فيما نواجهه منذ بدئهم الاستيطان في فلسطين سنة 1882، إن هذا الكتاب وإن كان مجرد خطوة في طريق طويل شاق لفهم الشخصية الإسرائيلية بجوانبها المعقدة، فقد أصبح الآن من مقتضيات العصر الراهن بعد تلك الموجة من التطبيع بين الأنظمة العربية الحاكمة والكيان الصهيوني.
مؤلف كتاب تجسيد الوهم.. دراسة سيكولوجية للشخصية الإسرائيلية
الدكتور قدري حفني، من مواليد 13 أغسطس 1938، حصل على ليسانس الآداب، قسم علم النفس من جامعة عين شمس، والماجستير في عام 1971، والدكتوراه في عام 1974، وقد شغل عدة مناصب أكاديمية بجامعات ومعاهد مصر والعالم العربي.
نال العديد من التكريمات العلمية والأدبية المهمة، من بينها: جائزة الدولة التشجيعية في علم النفس، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، وجائزة زيور للعلوم النفسية، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، توفي في 5 يونيو 2018.
ترك الدكتور قدري حفني العديد من الكتب والدراسات الفلسفية والسياسية المهمة، كما كان له العديد من الترجمات والأبحاث النفسية والمقالات العلمية والثقافية، ومنها: “دراسة فى الشخصية الإسرائيلية (الأشكنازيم)”، و”لمحات من علم النفس: صورة الحاضر وجذور الماضي”، و”العنف بين سلطة الدولة والمجتمع”.