بداية التغيير والصحوة
بداية التغيير والصحوة
مع وصول القوى الاستعمارية إلى الشرق الأوسط، بدأت تسقط دول المسلمين تحت سلطة الاحتلال، وبدأ الغزو، وبدأت المناداة بالجهاد ضد هذا الاحتلال، لكن سرعان ما عملت موازين القوة والمعرفة في صالح الغرب، وأمام هذا الانهزام بدأت محاولة استنساخ جميع ما هو فعَّال عند العدو- من وجهة نظر المهزوم- لعلَّه يحصِِّل هذه الفاعلية السحرية، بَدءًا من بنية الدولة الحديثة الفاعلة والضابطة لجميع مناحي الحياة، مرورًا بأنظمة الجندية والعسكرية، والبنية القانونية الصارمة، إلا أنه اضطر إلى شيء بسيط وعارض في جميع هذه الصور، وهو تغيير تكوين الوحدة البنائية الصغرى لجميع هذه الأنظمة، وهي: الإنسان مفاهيمه ومناهجه ومنظومته الأخلاقية وأهدافه النهائية والغائية.
وقد أضعفت هذه الإصلاحات التي شملت إدخال أسس التربية الحديثة على النمط الأوروبي الدور السياسي والاجتماعي للمؤسَّسات الدينية، وكذلك التأثير الاقتصادي للأوقاف؛ ممَّا أسفر عن تبديل السلطات الدينية بمتخصِّصين علمانيين في البلاط الملكي والدوائر السياسية والسلطة القضائية، وكانت الحداثة تقتطع بشكلٍ لا لبس فيه من دور الإسلام في المجتمع، بعدما كان الدين هو النطاق المركزي في جميع صور الممارسة السابقة.
بالطبع أدان كثيرٌ من المؤسسات الإسلامية الكبرى هذه الحداثة؛ وعارضوا إدخال التعليم العلماني، والاختلاط بين الجنسين، وطرق التمويل الغربية، واستيراد الظواهر الثقافية الغربية، والابتعاد عن نظم الحكم والإدارة التقليدية، إذ كانت تلك الإجراءات بمثابة بِدَع يجب رفضها، ومحاربتها إن لزم الأمر، ومن هنا مثَّلت ظاهرة الصحوة الإسلامية وما نشأ عنها من حركات ردَّة فعل على الترهُّل الذي أصاب مؤسَّسة الخلافة– أو الكيان السياسي الجامع إذا تحرَّينا الدقة– المتمثِّلة في السلطنة العثمانية؛ الترهُّل الذي تلاه إعلان مصطفى كمال أتاتورك إلغاء العلاقة السياسية الجامعة بين ديار الإسلام وإعلان دولة علمانية على النسق الغربي الأوروبي.
الفكرة من كتاب إسلام السوق
في القرون الماضية كان الإسلام العامل المحدِّد لكل المجالات على الأراضي الإسلامية، وهو المؤثر فيها باعتبارها خاضعة له لا العكس، وعلى الرغم من الاتفاق على أن الإسلام واحد لا يتبدَّل ولا يتغيَّر باعتباره شريعة إلهية، فقد بدأت تظهر بعض الاختلافات في فَهمه وفهم تأويلاته وتنزيلها على أرض الواقع فيما يُعرف بالتدين، نتيجة لاختلاف الثقافات ومدى قربها وبعدها عن أرض المنبع، لكن ظل الإسلام العامل الحاسم في تنظيم المجتمع وإدارته وسن قوانينه واتباع أحكامه، وهو العامل الحاسم في إضفاء الشرعية على الحكم السياسي للبلاد واعتبارها “دولة إسلامية” إن صح التعبير عن ذلك بمفهوم “دولة”، وهو ما يسلِّط هذا الكتاب الضوء عليه.
مؤلف كتاب إسلام السوق
باتريك هايني Patrick Haenni: باحث سويسري في العلوم الاجتماعية، وباحث سابق في مركز الدراسات والتوثيق القانوني(CEDJ) بالقاهرة، وباحث سابق في مرصد الأديان بسويسرا، وعمل بمنصب مستشار شؤون الشرق الأوسط في مركز (الحوار الإنساني)، وصدر له كتاب “ما بعد الإسلام السياسي” بالاشتراك مع أوليفييه روا، وكتابا “نظام الأعيان”، و”معارك حول الإسلام في الغرب”.
يمثل باتريك هايني جيلًا جديدًا من أجيال الإسلامولوجيين (المهتمين بالظاهرة الإسلامية)، وهو جيل يحرص أشد الحرص على الموضوعية العلمية والدراسة الوصفية والتحليلية البعيدة عن أي توظيف سياسي، وقد قضى وقتًا طويلًا في مصر وأقطار أخرى من العالم الإسلامي، وله صلات علمية وطيدة مع بعض التيارات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي، فعاش حينًا من الدهر في القاهرة دارسًا، وتعلم اللغة العربية وتعرَّف من كثب على الإسلاميين، وتعرَّف أيضًا على الإسلاميين الإندونيسيين والأتراك.