اللحظة الفارقة
اللحظة الفارقة
يذكر الكاتب واقعة لمحمد أسد في برلين كان لها أثر حاسم في موقفه من قضية الإيمان، ورغم بساطتها فهي بمثابة شرارة أضاءت عقله فرأى ما لم يكن ليراه في الظروف المعتادة، ويصف هذه الواقعة عندما كان مسافرًا في قطار برلين ووقع نظره على رجل يجلس أمامه تبدو عليه مظاهر النعمة والثراء، ولكن عندما أمعن النظر فيه شعر بأنه رجل تعيس يبدو عليه القلق والشقاء تدور عيناه حوله بنظرات خالية من المعنى على خلاف تام من مظهره المرفَّه، وكذلك حال سيدة تجلس بجواره يبدو عليها الشقاء والألم رغم ثغرها المتبسِّم ابتسامة جامدة يبدو أنها اعتادتها.
وتابع النظر فيمن حوله فيصفهم بقوله: “لم يسبق أن رأيت مثل هذا العدد الكبير من الوجوه التعسة من حولي، ولعلها كانت موجودة ولكني لم أتبيَّن هذا الانطباع الشقي الحزين من قبل…كنت على يقين أنهم لم يكونوا ليعلموا حقيقة ما هم فيه من عذاب وإلا لما كان بإمكانهم أن يواصلوا تبديد حياتهم كما يفعلون دون أي غاية أبعد من رفع مستوى معيشتهم والاستحواذ على المزيد من الملذات المادية، والمزيد من الممتلكات وربما المزيد من السلطة أيضًا”.
وعندما عاد محمد أسد إلى المنزل جذب نسخة من المصحف فوقع نظره على الصفحة المفتوحة فجرت عيناه سريعًا ليقرأ بصوت مهموس: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ 4كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، فاعتراه الصمت للحظات فكان ما قرأه من القرآن جوابًا قاطعًا لما رآه في القطار، ما جعل كل شكٍّ في عقله يتهاوى إلى نهايته وأيقن بلا شك أن القرآن كتاب الله ورسالته الخالدة بين البشر في جميع العصور، ففي كل العصور تتجلَّى مظاهر طمع الإنسان في المال والثراء ولكن صورته اليوم لا يمكن مقارنتها بأي وقت آخر، فقد دمر الإنسان كل شيء خيِّّر بداخله وسخر نفسه عبدًا مسلوب الإرادة لشهوة المال، وبعدها توجَّه محمد أسد إلى صديق له في برلين ليخبره برغبته في اعتناق الإسلام فمدَّ صديقه يده إليه ونطق محمد أسد الشهادة.
الفكرة من كتاب محمد أسد.. سيرة عقل يبحث عن الإيمان
يَندُر أن يصادف المرء شخصية يؤمن صاحبها عن فَهم ويعمل بمقتضى إيمانه، شخصية يتطابق فيها عمق الإيمان مع قوة الإرادة واستقامة السلوك، وأكثر من هذا ندرة أن تتوافر هذه الخصال في شخص لا تتوافر في بيئته ومجتمعه عوامل تدعم هذه الخصال، بل تتوافر عوامل معاكسة مثبِّطة، وهذا هو شأن الصالحين والمصلحين في مجتمعاتهم.
وفي هذا الكتاب لا يسرد الكاتب سيرة محمد أسد سردًا تاريخيًّا من المولد إلى الوفاة، ولكنه يرصد التحولات العقلية لصاحبها خطوة بخطوة حتى انفتحت في وعيه شرارة كشفت له الكون ليرى موقعه الذي اختاره الله له.
مؤلف كتاب محمد أسد.. سيرة عقل يبحث عن الإيمان
محمد يوسف عدس: مفكر وفيلسوف مصري، ولد في قرية بهوت بمحافظة الدقهلية عام 1934م، تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة، عمل مديرًا للمركز الثقافي بالفلبين، وأمينًا عامًّا لمكتبة المعهد العالي للتكنولوجيا بأستراليا ثم أمينًا للمكتبة القومية بأستراليا ثم خبيرًا للمكتبات بمنظمة اليونسكو، ثم مديرًا لمكتبات جامعة قطر، تفرَّغ لدراسة القضايا الإسلامية المعاصرة في التاريخ الحديث.
من أشهر مؤلفاته: “البوسنة في قلب إعصار”، و”الحرب الشيشانية بين التأليف والتزييف”، توفي في أستراليا عام 2017 عن عمر يناهز الـ 83 عامًا.