انطباعات عن مصر وفلسطين
انطباعات عن مصر وفلسطين
انتقل محمد أسد إلى فلسطين بحرًا مما أتاح له المرور بمصر بالقطار من الدلتا حتى سيناء، وأدهشه في تلك الرحلة ما شهده من مظاهر حياة الشرق، وأكثر ما لمس قلبه مشهد ذلك البدوي الذي اقتسم رغيفه معه في مبادرة عفوية، فقد استطاع البدوي بسلوكه الفطري أن يجتاز كل حواجز الغربة واللغة ليستشعر الصداقة الإنسانية مع رجل صَحِبه في رحلة عابرة، وأخذ محمد أسد يتأمل البدو من حوله، وبدأ ينبثق في عقله فكرة أن هؤلاء الناس يدركون الحياة بطريقة مختلفة عن بقية البشر ولديهم معايير وقيم مختلفة للحياة.
وفي فلسطين نزل محمد أسد ضيفًا على خاله بمدينة القدس القديمة وكان يعمل طبيبًا نفسيًّا في المستشفى، وأخذ يتفحَّص المكان من حوله ويرصد ما يجري خارج المدينة، ويصف العرب وهم يتنقلون بحرية وثقة وانسجام مع البيئة المحيطة بخلاف اليهود والروس بمظهرهم الأوروبي الذين يبرز نشازًا مع جو القدس العريق، يقول محمد أسد: “لم أكن أتصوَّر أن القدس مليئة بسكانها العرب على هذا النحو الذي شاهدته، وأن سكان فلسطين من العرب يبلغون خمسة أمثال اليهود على الأقل، لقد كانت بلادًا عربية لا جدال فيها، ولم يكن الصهاينة يقيمون وزنًا للعرب ولا يحسبون لهم حسابًا، ولكنني كنت أرى اليهود غرباء في فلسطين رغم كل مزاعمهم التاريخية”، وهذه شهادة مهمة جدًّا لأن شاهدها كان لا يزال يهوديًّا لم يعتنق الإسلام بعد، ولكنه كان صحفيًّا مخلصًا لمهنته باحثًا عن الحقيقة، وبموقفه العادل اكتسب صداقة العرب على أوسع نطاق، كما اكتسب صداقة بعض اليهود الذين لم يأتوا إلى فلسطين إلا لأغراض دينية ولكن موقفه هذا كان مثيرًا للريبة ولم يعد مقبولًا من الناحية السياسية.
أدرك محمد أسد من خلال احتكاكه بعرب فلسطين أن هؤلاء الناس رغم تخلُّفهم المادي؛ فإنهم يتمَّتعون بطمأنينة نفسية وأمن عاطفي، فسعى لفهم روح الشعوب المسلمة لا ليعتنق دينهم فهو لم يكن قد فكر في هذا الأمر بعد، ولكن لاكتشاف الاتساق العضوي بين منطق العقل ومشاعر القلب مما تفتقر إليه الحياة الأوروبية.
الفكرة من كتاب محمد أسد.. سيرة عقل يبحث عن الإيمان
يَندُر أن يصادف المرء شخصية يؤمن صاحبها عن فَهم ويعمل بمقتضى إيمانه، شخصية يتطابق فيها عمق الإيمان مع قوة الإرادة واستقامة السلوك، وأكثر من هذا ندرة أن تتوافر هذه الخصال في شخص لا تتوافر في بيئته ومجتمعه عوامل تدعم هذه الخصال، بل تتوافر عوامل معاكسة مثبِّطة، وهذا هو شأن الصالحين والمصلحين في مجتمعاتهم.
وفي هذا الكتاب لا يسرد الكاتب سيرة محمد أسد سردًا تاريخيًّا من المولد إلى الوفاة، ولكنه يرصد التحولات العقلية لصاحبها خطوة بخطوة حتى انفتحت في وعيه شرارة كشفت له الكون ليرى موقعه الذي اختاره الله له.
مؤلف كتاب محمد أسد.. سيرة عقل يبحث عن الإيمان
محمد يوسف عدس: مفكر وفيلسوف مصري، ولد في قرية بهوت بمحافظة الدقهلية عام 1934م، تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة، عمل مديرًا للمركز الثقافي بالفلبين، وأمينًا عامًّا لمكتبة المعهد العالي للتكنولوجيا بأستراليا ثم أمينًا للمكتبة القومية بأستراليا ثم خبيرًا للمكتبات بمنظمة اليونسكو، ثم مديرًا لمكتبات جامعة قطر، تفرَّغ لدراسة القضايا الإسلامية المعاصرة في التاريخ الحديث.
من أشهر مؤلفاته: “البوسنة في قلب إعصار”، و”الحرب الشيشانية بين التأليف والتزييف”، توفي في أستراليا عام 2017 عن عمر يناهز الـ 83 عامًا.