نشأة الحضارات
نشأة الحضارات
أية حضارة في الوجود لا تنشأ من قبيل الصدفة، وإنما عن طريق إيجاد فكرة جوهرية تدفعها إلى الممر التاريخي للحضارات، وحينها تكون الحضارة بمنزلة الشيء الكامن المستتر والذي أزاحت عنه الستار تلك الفكرة الجوهرية، فكل مجتمع في التاريخ يمر بثلاث مراحل دائمة التغير: ما قبل التحضر والتحضر وما بعد التحضر، في مرحلة ما قبل التحضر إما أن يوجد نموذج أصلي للحضارة مُسبقًا، بمعنى أن هناك منظومة فكرية وأخلاقية ثابتة لكن عفا عليها الزمن، وإما أن يتم إيجاد النموذج الحضاري من العدم كما نشأت الحضارة الإسلامية استنادًا إلى مركزية الوحي، وفي كلتا الحالتين تستمد الحضارة نظام الفكر الجديد لها من ذلك النموذج المرجعي، ويتشكَّل المحيط الثقافي الذي يحدِّد الخصائص المميِّزة للحضارة الوليدة عن غيرها.
وفي مرحلة التحضُّر يحدث اجتماع لكل العوامل المادية والمعنوية التي تُعين كل فرد فيه على الإبداع وتُوفِّر جميع الضمانات الاجتماعية المساهمة في تطوُّره والتي يكون الفرد دونها عاجزًا عن التأثير حتى ولو كان إسهامه يهدف إلى التقدم (كما في مرحلة ما قبل وما بعد التحضُّر)، وأما في مرحلة ما بعد التحضُّر فيحدث ما يشبه حالة التشبُّع العام من التقدُّم والوفرة في كل المنتجات التقدُّمية، فينحسر دور الأفكار التي أدَّت إلى التطوُّر المادي بأنواعه، وتصبح الأفكار كالزخرفة أو الزينة التي لا فائدة منها، بل هي نوعٌ من الترف ينكبُّ عليه المثقفون فقط!
وقد يتساءل البعض: لماذا تستمر الحضارة حديثة النشأة ولا ترجع إلى عصر ما قبل التحضُّر ثانيةً؟
الحقيقة أن ذلك النظام الفكري الناشئ لا ينشأ وحده وإنما يصحبه نظامٌ شعوري يخطو معه خطوة بخطوة، ومن ثَمَّ أية محاولة بواسطة الأشخاص أو الأشياء للرِدّة؛ تُواجَه بالتوتُّر الداخلي والغليان الموجود في المجتمع، بل ويتم التنكيل بكل ما يقوِّض فكرة الحضارة الناشئة، كما حدث فى حروب الرِدَّة بين الصحابة وقبائل العرب المرتدة، وطالما استمرت الفكرة الدافعة، استمرت الحضارة، بل حتى عندما سقطت بغداد والأندلس وتقهقرت الحضارة الإسلامية، احتفظت الفكرة الدافعة بمكانتها في النفوس وتخلَّصت من الاستعمار في العصر الحديث.
الفكرة من كتاب مشكلات الأفكار في العالم الإسلامي
يمرُّ الواقع الإسلامي بلحظات صعبة فارقة، من شدة التخلُّف الحضاري لا يستطيع المسلمون تحديد من أين يبدأ الطريق: هل من خلال عالم الأفكار، أم عالم الأشياء، أم عالم الأشخاص؟
يناقش الكاتب المشكلات الفكرية التي يعانيها العالم الإسلامي، ويحلِّل الواقع معتمدًا على التاريخ وطامحًا في المستقبل، يحاول أن يبيِّن السبيل للنخب الفكرية والمثقفين حتى يضعوا أيديهم على لُب المشكلة، كما يبين بعض المفاهيم الفكرية الخاصة التي استحدثها من أجل تبسيط المكونات الاجتماعية.
مؤلف كتاب مشكلات الأفكار في العالم الإسلامي
مالك بن نبي: مفكر إسلامي جزائري، ولد في الأول من يناير عام 1905 في قسنطينة بالجزائر، وتابع دراساته القرآنية ودرس بالمدرسة الفرنسية وتخرج عام 1925، سافر بعدها إلى فرنسا وانغمس في دراسة الحياة الفكرية، انتقل إلى القاهرة هاربًا من فرنسا بعد إعلان الثورة الجزائرية، وعاد إلى الجزائر بعد الاستقلال وتم تعيينه مدير عام التعليم العالي، وانشغل بإلقاء المحاضرات والتأليف والبحث، وتوفي في الواحد والثلاثين من أكتوبر عام 1973.
من أشهر مؤلفاته: “القابلية للاستعمار”، و”شروط النهضة”، و”مشكلة الثقافة”، و”الصراع الفكري في البلاد المستعمرة”.