الفراغ الاجتماعي وشبكة العلاقات
الفراغ الاجتماعي وشبكة العلاقات
كلما كانت هذه العلاقات بين العوالم الثلاثة أوثق كانت قدرة المجتمع على التغيير والحركة أقوى، ودرجة تماسكه أعلى، وقيمة الفرد والمجتمع أنفس، والعكس بالعكس، فكلَّما قلَّت درجة الانسجام انسحق المجتمع وتحوَّل أفراده إلى ذرات لا قيمة ولا وزن لهم، وتُقاس درجة المتانة أو التراخي في العلاقات بمقدار الفراغ الاجتماعي في شبكة العلاقات؛ إما من الناحية الكمية بحساب ثفافة وتشعُّب علاقات كل فرد من أفراد المجتمع مع أقرانه، وإما كيفيًّا بمقدار الوظائف التي يقوم بها كل فرد للمجتمع.
ويمر المجتمع بثلاث مراحل؛ ففي المرحلة الأولى- وهي الحالة الكاملة – حينما تتغلَّب الروح على الغرائز والعقل فتسيطر القيم الأخلاقية تكون شبكة العلاقات هي الأقوى، أما المرحلة الثانية فيتحكَّم فيها العقل على كامل التفاعلات، ويقلِّل من درجة تماسك روابط العلاقات التي تكون مبنية فقط على عنصر المصلحة أو المنفعة، أما في المرحلة الثالثة فتصبح الغرائز هي الحاكمة بفعل تقديم الجمال والقوة على الحق، فتتحلَّل الروابط الاجتماعية وتضعف شبكة العلاقات الاجتماعية إلى أن تنهار.
وهنا يؤكد الكاتب أن الدفاع عن شبكة العلاقات الاجتماعية ضد قوارض المجتمعات التي تسعى إلى القضاء على الصلات بين الأفراد في عالم الأشخاص والعلاقة بينهم وبين عالم الأشياء وعالم الأفكار، فتهادن الاستعمار، وتبثُّ سموم أفكارها في بنائه، وتحدُّ من عمله المشترك، كما تسعى إلى فصمه عن أي قيم حضارية وتاريخية أو روحية، هو أهم تحدٍ لرواد النهضة؛ ولهذا تهدف التربية الاجتماعية إلى أن يتعلَّم الفرد كيف يتحضَّر؛ فيترجم المبادئ والتعاليم في صورة فعل اجتماعي يؤثِّر في العوالم الثلاثة، يقضي بواسطته على قوارض مجتمعه، ويحقق الحضارة المنشودة.
الفكرة من كتاب ميلاد مجتمع.. شبكة العلاقات الاجتماعية
يتناول هذا الكتاب فكرة ميلاد المجتمعات والظروف التي تنمو وتتطوَّر فيها إلى أن تصل إلى مرحلة الشيخوخة، وكعادة مؤلِّفه يمسك بزمام مصطلحاته ومفاهيمه فيُعِدُّ منها نسيجًا تحليليًّا يفكِّك من خلاله أبعاد موضوعه، وتكمن أهمية هذا الكتاب في اقترابه بصورة عملية من واقع مجتمعاتنا في الوقت الراهن، كما يبصِّرنا بالصيرورة التاريخية للمجتمعات وشروط بعثها انطلاقًا من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “لا يصلح حال آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها”.
مؤلف كتاب ميلاد مجتمع.. شبكة العلاقات الاجتماعية
مالك بن نبي: مفكر إسلامي جزائري، ولد في الـ28 من يناير عام 1905، تتميَّز سلسلة كتاباته عن الحضارة ومشكلاتها، بعمق تحليلها الاجتماعي والنفسي الذي يجمع بين استيعاب ما توصَّل إليه الفكر الغربي من تفسير الحضارة وعوامل قيامها وسقوطها وبين العقلية الإسلامية التي تستمدُّ نبعها الصافي من الأصول الإسلامية الأساسية.
تُوفِّي مالك في الـ31 من أكتوبر 1973 بعد نضال فكري أنتج خلاله ما يناهز ثمانين مؤلفًا بالعربية والفرنسية؛ منها: “الفكرة الأفريقية الآسيوية”، و”تأمُّلات في المجتمع العربي”، و”فكرة كومنولث إسلامي”، و”إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي”، و”المسلم في علم الاقتصاد”.