مراتب الأحكام
مراتب الأحكام
قد يبدو الأمر مثيرًا للدهشة إلا أن مفاهيم كالدولة والسياسة والحكم لها مدلولات حديثة في العصر المعاصر عن العصور الماضية، وأيضًا الإشكالات المُثارة عن الحركة السياسية والحاجة إلى تحليل المصطلح وتفسير الواقع هو حادث طارئ جديد حيث لم يكن هناك حاجة إلى هذا من قبل، لذا فإن اللّبس وسوء الفهم اللذين حصلا للبعض كانا نتيجة الخلط بين تلك المفاهيم القديمة والحديثة. لنتوقَّف قليلًا هنا أيضًا في محاولة أخرى للفهم فنطرح سؤالًا يدور حول موقع المسألة السياسية في الشريعة وطبيعة تصور الإسلام لها.
وللإجابة عن هذا السؤال علينا أن نفهم أولًا المراتب التشريعية للأحكام الشرعية عامة وهي على ثلاث مراتب: ما يتعلق بأصول الدين الاعتقادية أو العملية، أي ما يتعلق بكليات هذا الدين فإنما يكون أصل تشريعه في القرآن جملةً لا تفصيلًا وصراحةً لا إيماءً، فيأتي فيها مثلًا الأمر بإقامة الصلاة كليةً، لتأتي المرتبة الثانية وهي مرتبة التفصيل والبيان فتدخل السنة النبوية مبينة للكيفية والتطبيق، وتبقى المرتبة الثالثة لما سكت عنه الشارع قصدًا ولم يُذكر في الكتاب والسنة فهو للاجتهاد.
لنعد إلى السياسة بعد هذا الفهم اليسير معرِّفين أولًا الأحكام السياسية باعتبارها تشريعات متعلقة بتدبير شؤون الدولة على المستوى الدستوري والإداري والتنفيذي، مما كان يُطلق عليه قديمًا الأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية ونحو ذلك، إذًا بناء على مراتب التشريع أين تقع الأحكام السياسية؟ باستقراء الدين والتاريخ يتبين أنها تقع في مرتبة الاجتهاد إلا أن علينا أن نفرِّق بين القوانين التشريعية الخاصة ببناء الدولة والمجتمع ومراعاة حقوق الناس وإقامة العدل بينهم واستدامة الشريعة وحدودها وأحكام السلم والحرب وبين القوانين المتعلقة بفن حكم وإدارة الدولة، فالأول منصوص مبثوث في الشريعة والثاني لم ينل نصيبًا من النص الشرعي إلا الشيء اليسير فيُحال للاجتهاد كما سبق الذكر، وإن سأل سائل عن إمامة النبي (صلى الله عليه وسلم) أنها كانت تشريعًا سياسيًّا فقد فرَّق العلماء بين مهام النبوة ومهام الإمامة، فالتصرُّفات بالإمامة تصرُّفات لاقتضاء المصلحة لأناس في زمان معين ومكان معين وظروف معينة لا تلزم غيرهم.
ليس معنى أن هذه المسألة متروكة للاجتهاد أنها ليست من الدين بمكان، ولكن ذلك يعني وضع الأمور في نصابها وإعطاءها قيمتها المستحقة دون غلوٍّ فيها أو تفريط، فالمسألة السياسية وسيلة من وسائل حماية التدين العام في المجتمع ودُعاة العلمانية وفصل الدين عن الدولة قومٌ جُهَّل إما بالدين وإما بالدولة، فكل دولة قائمة على دين ولا شك وإن أنكرت وزخرفت في مصطلحاتها، فإما أن يكون دينًا سماويًّا وإما أن يكون دينًا أرضيًّا وضعيًّا اشتراكيًّا كان أو رأسماليًّا أو ليبراليًّا أو غيره، فحين تعتنق الدولة اتجاهًا من تلك الاتجاهات فهي تقوم تجاهه بما يُقام به تجاه الدين، ولا يعني ذلك أيضًا أن تُحصر الدولة في الدين وأن تكون السياسة هي الغاية وإنما كما سبق هي وسيلة من الوسائل التي يُخدم بها الدين والتدين في المجتمع.
الفكرة من كتاب البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي
“إن مفتاح العمل الدعوي الإسلامي رهين أولًا وقبل كل شيء بتحقيق إسلاميته في نفسه! أي إنه لا بدَّ من مراجعة التصورات والمفاهيم والمناهج وسائر الوسائل التي تتبنَّاها هذه الجماعة أو تلك، أو يعرضها هذا المفكر أو ذاك كمشروع لتجديد الدين وإقامته في المجتمع”.
في عرض تفصيلي تحليلي مكثَّف يعرض الكاتب في هذا الكتاب القضية الإسلامية السياسية ليفحصها من جذورها، ويتدرَّج بالقارئ شيئًا فشيئًا، فيضع النتائج أمامه واضحة بيِّنة متوافقة مع الواقع ليجعله يتساءل متى التطبيق؟!
مؤلف كتاب البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي
فريد الأنصاري: عالم دين وأديب مغربي، كان عضوًا برابطة الأدب الإسلامي العالمية، وهو أستاذ كرسي التفسير بالجامع العتيق لمدينة مكناس، وخطيب جمعة وواعظ بعدد لجوامع مدينة مكناس.
له العديد من المؤلفات والكتب منها:
كاشف الأحزان ومسالح الأمان، والدين هو الصلاة والسجود لله باب الفرج، وبلاغ الرسالة القرآنية من أجل إبصار لآيات الطريق.