الاستعمار يقود الآلة
الاستعمار يقود الآلة
كان ما انتهت إليه هذه العملية الطويلة من الهندسة الاجتماعية، وما صاحبها من عمليات تربية وتنشئة وضبط وتوجيه، أن تحوَّل المجتمع إلى كتلة صمَّاء كالآلة تحتاج فقط إلى من يقودها ويوجِّهها، فالنهضة التي أحدثها محمد علي كانت بعقلية أوروبية وأعين أوروبية، تشرَّبت النظرة الغربية إلى المجتمعات الشرقية ولما ينبغي أن تكون عليه، والتي كانت بالأساس محكومة باعتبارات الاستعمار والرغبة في السيطرة على تلك البلاد.
ولم يكن البانوبتيكون مجرد نموذج خيالي أو صورة نحاول وصف الدولة الحديثة بها، وإنما كان نموذجًا حقيقيًّا طُبِّق في الواقع، فقد تراسل جيرمي بنتام مع محمد علي باشا في مصر، ودعاه إلى إدخال المبدأ البانوبيتي وتقنيات جديدة أخرى في عملية إنشاء الدولة، بل إن جورج بورنج، صديق بنتام ومساعده، قد زار مصر وعمل مستشارًا للباشا، وقد مثَّلت مصر في القرن التاسع عشر وجهة للأوروبيين من خبراء عسكريين ورجال تعليم وخبراء طب، وأسهموا جميعًا في إنشاء دولة حديثة قائمة على المناهج الجديدة للسلطة الانضباطية.
الفكرة من كتاب استعمار مصر
يرى الكاتب أن الدولة الحديثة التي نشأت في مصر على يد محمد علي باشا -وبمعاونة أوروبية (إنجليزية وفرنسية)- إنما نشأت على شكل سجن بانوبتيكوني بالأساس، وسجن البانوبتيكون هذا هو نموذج رسمه الفيلسوف القانوني الإنجليزي جيرمي بنتام؛ وهو عبارة عن “زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسَّطها برج مراقبة” تتيح هذه الزنازين للحارس القابع في برج المراقبة أن يرى النزلاء، ولا يمكن للسجين أن يرى الحارس، ومن ثم ومع مرور الوقت يستبطن السجين نظرة الحارس ويشعر دائمًا أنه مراقب، وأن ثمة من يترصَّده.
وعلى هذا يتفق ميتشل مع الفيلسوف الفرنسي فوكو في أن الدولة الحديثة قد بنيت على شكل سجن بانوبتيكوني ضخم، بحيث يصبح الشعب سجين الدولة، والدولة هي الحارس القابع في البرج، ويستلزم بناء هذا السجن عملية تنظيم وتنشئة وتربية اجتماعية واسعة النطاق؛ تعمد إلى تغيير سلوك الشعب ونمط حياته بما يتفق وبناء الدولة الحديثة، وهكذا يتناول هذا الكتاب عملية الهندسة الاجتماعية التي صاحبت بناء الدولة الحديثة التي فتحت الطريق أمام الاستعمار الإنجليزي؛ فإن هذه العملية قد تمت أساسًا بأعين وأيدٍ أوروبية ومباركة باشاوية.
مؤلف كتاب استعمار مصر
تيموثى ميتشل Timothy Mitchell: عالم سياسة بريطاني، وأستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة نيويورك.
له مؤلفات عديدة منها: “الديمقراطية والدولة في العالم العربي”، و”دراستان حول التراث والحداثة”، و”ديمقراطية الكربون: السلطة السياسية في عصر النفط”.