بعد أن أسرنا أجسادهم!
بعد أن أسرنا أجسادهم!
كانت الخطوة التالية لسيطرة الحاكم والدولة على الأجساد هي السيطرة على العقول وتشكيل النظام الأخلاقي وما يتفرَّع عنه من عادات وسلوك، وتوجيهها لما يحقِّق الصالح العام كما يراه الحاكم (الذي سيكون فيما بعد هو المستعمر الإنجليزي)، وهكذا بدأ المثقفون المصريون الذين تلقَّوا تعليمهم في الخارج (إنجلترا وفرنسا)، وعادوا حاملين لواء التنوير والتجديد، في ترجمة الكتب التي تتناول المنظومة الأخلاقية الجديدة المراد بثُّها في عقول المصريين، فتم تصوير المصري على أنه إنسان كسول وخامل، يضيع معظم عمره بلا طائل ولا إنتاج ولا عمل حقيقي؛ والسبب الرئيس في هذا أن الشعب المصري بطبعه وأخلاقه لا يميل إلى العمل ولا الإنتاج، ولذا يجب إعادة تشكيل أخلاق المصريين ورسمها بما يجعلهم منتجين وذوي فائدة.
وكثرت الكتابات التي تتناول هذه المسألة ووُضِعَت كمقرَّرات تعليمية في المدارس، وخُصِّص لها أعمدة في الصحف، وتولَّى هذه المهمة مثقَّفون مثل: رفاعة الطهطهاوي وعبد العزيز جاويش، لذا كان الغرض الأساسي لهذا التوجُّه هو أن تصبح الدولة وما تفرضه من سياسات هي المُشكِّل للعادات والأخلاق الفردية، والفكرة في جوهرها وأساسها أوروبية هادفة إلى دفع الشعوب المستعمرة إلى زيادة الإنتاج وإفناء أعمارهم وحياتهم في العمل، باعتباره طريق التقدم والازدهار.
الفكرة من كتاب استعمار مصر
يرى الكاتب أن الدولة الحديثة التي نشأت في مصر على يد محمد علي باشا -وبمعاونة أوروبية (إنجليزية وفرنسية)- إنما نشأت على شكل سجن بانوبتيكوني بالأساس، وسجن البانوبتيكون هذا هو نموذج رسمه الفيلسوف القانوني الإنجليزي جيرمي بنتام؛ وهو عبارة عن “زنازين ذات شبابيك واسعة على شكل حلقة دائرية يتوسَّطها برج مراقبة” تتيح هذه الزنازين للحارس القابع في برج المراقبة أن يرى النزلاء، ولا يمكن للسجين أن يرى الحارس، ومن ثم ومع مرور الوقت يستبطن السجين نظرة الحارس ويشعر دائمًا أنه مراقب، وأن ثمة من يترصَّده.
وعلى هذا يتفق ميتشل مع الفيلسوف الفرنسي فوكو في أن الدولة الحديثة قد بنيت على شكل سجن بانوبتيكوني ضخم، بحيث يصبح الشعب سجين الدولة، والدولة هي الحارس القابع في البرج، ويستلزم بناء هذا السجن عملية تنظيم وتنشئة وتربية اجتماعية واسعة النطاق؛ تعمد إلى تغيير سلوك الشعب ونمط حياته بما يتفق وبناء الدولة الحديثة، وهكذا يتناول هذا الكتاب عملية الهندسة الاجتماعية التي صاحبت بناء الدولة الحديثة التي فتحت الطريق أمام الاستعمار الإنجليزي؛ فإن هذه العملية قد تمت أساسًا بأعين وأيدٍ أوروبية ومباركة باشاوية.
مؤلف كتاب استعمار مصر
تيموثى ميتشل Timothy Mitchell: عالم سياسة بريطاني، وأستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا، وأستاذ سابق للعلوم السياسية في جامعة نيويورك.
له مؤلفات عديدة منها: “الديمقراطية والدولة في العالم العربي”، و”دراستان حول التراث والحداثة”، و”ديمقراطية الكربون: السلطة السياسية في عصر النفط”.