بين الرمز والصورة
بين الرمز والصورة
يقول علماء الآثار إن الكتابة بدأت عندما اضطر أسلافنا إلى تسجيل أفكارهم ولغاتهم لتسهيل الحياة، فظهرت الكتابة الأولى على هيئة رموز أو صور، وكان الإنجاز الأهم هو الانتقال بالكتابة من الرموز إلى الكتابة المقطعية (الصوتية)؛ فالرموز لم تعد تشير إلى مسميات الأشياء، بل تقرأ صوتيًّا لتدل على الكلام المحكي، ثم تطور الأمر إلى ترميز الحروف المتحركة والساكنة لتصبح الأبجديات بالشكل الحالي، حيث أصبح من الممكن ترميز كل ما ننطق به أو نسمعه بما لا يزيد على 30 حرفًا في معظم الأبجديات، فالكلمة إذًا تقترن بالصورة والرمز في كل جوانب حياتنا اليومية، ولكننا لا نتعامل مع الكلمة المكتوبة بوصفها صورة مرئية، بل مجرد رمز يختزل دلالة لغوية مخزونة في ذاكرة الجميع، واتفقوا على اصطلاح هذه الدلالة لهذا الرمز، وهذا بخلاف الصورة.
إن الصورة تقدَّم لنا جاهزة من غير أن تدفع عقولنا إلى استحضار المفاهيم المركبة (كما في الكلمة المكتوبة)، ولا تحرض العقل على المقارنة والتأويل، بل تكتفي بالتجريد والتعميم ودفعنا إلى المطابقة بين ما نراه وما نصدقه، ولذا تنشأ الأجيال الجديدة في ثقافة الصورة بفقرٍ لغوي ومعرفي ومفاهيمي خطير، مستحوذة على اهتمامهم لسهولة تلقِّيها وتوجُّهها المباشر إلى الغرائز والمشاعر، وهذا على خلاف ثقافة الكلمة التي تضيق دائرتها لاحتياجها إلى مجهودٍ من الفهم والاستدلال.
والمشكلة ليست في الصورة ذاتها، بل في طغيانها على الكلمة واعتياد الناس سهولة التلقي دون محاكمة عقلية للمعلومات، ويزداد الأمر سوءًا عندما تستخدم الصورة بشكلٍ متعمَّدٍ لإثارة الغرائز، مما يربط ذهنيًّا بين الصورة والانحطاط أو التسليع، فالكلمة تعتمد على العقل والبرهان المنطقي ومقارعة الحجة بالحجة والصورة تعتمد على الذاكرة والخيال والتحريض.
ومن المعروف أن أداة الإبصار هي العين، وأن المسلمين هم أول من اجترأ على تشريحها ووصفها وجراحتها، وخرج ابن الهيثم على ما كان سائدًا قديمًا فقال إن العين ترى الأشياء بانعكاس الضوء عنها وليس بصدور الضوء من العين، وهو ما نسب زورًا إلى دافنشي فيما بعد، متعمدين بهذا طمس ما توصل إليه ابن الهيثم.
الفكرة من كتاب قوة الصورة.. كيف نقاومها ونستثمرها؟
“إذا كانت الصورة هي الوسيلة الأقوى للطغيان والإفساد في عصور الأمية، فشيوع القراءة والعلم لم يغير الكثير في عصرنا الذي أُطلق عليه اسم “عصر الصورة”، وكأن تطور العلم كان سببًا في تطور توظيف الصورة لتحقيق الأهداف ذاتها، بدلًا من تحرير الإنسان من عبوديته”.
يبحث هذا الكتاب في تاريخ الصورة وأنواعها والفرق بينها وبين الكتابة وطرق التلاعب بها والتأثير في الناس من خلالها، ويهدف إلى توعية المتلقي بخطرها ووسائل استغلالها، وفتح الباب لفهم آليات توظيفها في الخير.
مؤلف كتاب قوة الصورة.. كيف نقاومها ونستثمرها؟
أحمد دعدوش: كاتب وباحث وإعلامي، من مواليد 1979م، حاصل على بكالوريوس في الاقتصاد ودبلوم العلاقات الاقتصادية الدولية وليسانس في العقيدة والفلسفة، إضافةً إلى دورات في الإعلام والإخراج التلفزيوني من مراكز دولية.
أعد وأخرج العديد من البرامج والأفلام الوثائقية، وصدر له كتاب “ضريبة هوليود” و”المغالطات المنطقية في وسائل الإعلام” و”مشكلة الزمن: من الفلسفة إلى العلم”، وله عشرات الأبحاث والمقالات والتحقيقات المنشورة ورقيًّا وإلكترونيًّا.