إرث زنكي.. جيل التحرير

إرث زنكي.. جيل التحرير
مات زنكي وخشي المسلمون أن يضيع ميراث الجهاد الذي بثه وأحياه هذا الرجل العظيم، لكن وسط الهلع الذي ساد معسكره، ظل رجل واحد رابط الجأش عازم النية على إكمال الطريق، لم يلبث نور الدين، محمود ابن زنكي، بعد وفاة أبيه أن أمسك بزمام الأمور وأعاد أحوال الجيش إلى نصابها، ورغم خصال الشجاعة والإقدام التي عُرفت عن زنكي، فقد عُرف أيضًا بغضبه وشدّته، لكن محمود أخذ منه حسناته وأضاف إليه وقارًا ورحمة ستضمن له كثيرًا من الحلفاء، وقد رأى محمود أملاك أبيه وقد تشتتت وعبث بها الفرنجة وغيرهم، وبعدما كانت الموصل وحلب والرُّها تحت إمرته ويطمح بعينيه إلى دمشق، لم يجد من كل ذلك سوى حلب، وبدا أنه سيعيد كرة أبيه من جديد ليوحد تلك المدن الشامية.

ولم يُضِع نور الدين مزيدًا من الوقت، فما إن أتت أنباء سقوط الرها مجددًا في يد الفرنج حتى شق بأجناده الطريق إليها، فالرُّها مجد أبيه الأتابك وأول مدينة عربية تُحرر من الفرنج، وكانت عودتها إلى أحضان حلب من جديد نبأً عظيمًا أرّق مضاجع الفرنجة، وكان كفيلًا بإعداد حملة صليبية جديدة لكبت الأحلام العربية، وتساءل الجميع.. ما وجهة تلك الحملة وأي مدينة ستقصد؟ وكانت المفاجأة أن قادتها لم يرضوا بغنيمة أقل من دمشق! المدينة التي أبرمت معاهدتها مع فرنجة القدس واستعصت على زنكي وابنه نور الدين، ليس بوسع الفرنجة أن يخدموا المقاومة العربية أكثر من هذا، وبالفعل استعانت دمشق أخيرًا بنور الدين واضطرت الحملة إلى الانسحاب من دمشق دون أي مجد، ومنذ هذه اللحظة لن يعود الانقسام والخلاف حكرًا على العرب وحدهم.
أصبح نور الدين بطل عصره بلا مِراء وأرسل الناس في أوصافه وأفعاله فاستحضروا معه أيام الراشدين، ولم يكن أنداده في دمشق أكفْاءً له ولا في سعتهم أن يقارعوا رغبته في ضم المدينة إلا بالخيانة والتحالف مع الفرنجة ضده من جديد، لكن لن تفلح المناورة هذه المرة، فبعد سحق نور الدين لأمير أنطاكية، لم تكلفه دمشق سوى مداهمة طريفة بالتعاون مع أبناء المدينة، وأصبح حينها سيد الشام بلا منازع، لكن قبل البدء بالهجوم الأخير على الفرنجة، كان ميدان آخر ينتظر معركة كبيرة، فالآن سيبدأ السباق نحو النيل.
الفكرة من كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
لا تزال ذكرى الحروب الصليبية حية حارة في أذهان العرب إلى اليوم، ولا تكف الأمثلة عن الظهور طوال الوقت، فمع كل هجوم يقع على العالم الإسلامي من جهة الغرب، لا يتمكن المرء من كبح ذهنه كيلا يرجع إلى تلك الأيام، فدائمًا كانت الحروب الصليبية موردًا غنيًّا للإسقاطات التاريخية، وبوسع العرب والمسلمين أن يجدوا فيها أمثلة لأحداث عصرهم وأبطاله، وإلى اليوم يقتبس الرواة صلاح الدين وسقوط القدس واستعادتها، وغالبًا ما تُوصف إسرائيل بأنها مملكة صليبية حديثة، ففي ثنايا تلك الأحداث كانت بداية العداء الطبيعي بين العرب والغرب، وكانت الحروب الصليبية هي التي حكمت على هذين العالمين بالفراق والحذر الدائم.
مؤلف كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
أمين معلوف: أديب وصحفي لبناني، وُلد في بيروت عام 1949م، ودرس علم الاجتماع في جامعة القديس يوسف، وعمل في شبابه مُحررًا لدى جريدة النهار، ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976م انتقل إلى باريس حيث ما زال مقيمًا إلى اليوم، حصل معلوف على عديد من الجوائز والتكريمات مثل جائزة جونكور الفرنسية عن روايته “صخرة طانيوس”، ومن أهم مؤلفاته:
رواية سمرقند.
الهويات القاتلة.
موانئ المشرق.
عن المترجم:
عفيف دمشقية: لغوي وباحث ومترجم لبناني، ولد ببيروت عام 1931م، حصل على شهادة الماجستير في العلوم اللغوية في الجامعة اللبنانية، ثم حصل على شهادة الدكتوراه لاحقًا من جامعة السوربون في فرنسا، من أعماله:
سمرقند لأمين معلوف.
خفة الكائن التي لا تحتمل لميلان كونديرا.
الأجراس لأيريس مردوخ.