مقاوم ذو عمامة.. هبة عربية

مقاوم ذو عمامة.. هبة عربية
لم يملك الأمراء المسلمون أية إجابة، فقد سلموا بالوجود الفرنجي، بل أقاموا حروبهم على أساسه واستعانوا بقواته، لكن جذوة النار في قلوب الناس ظلت مشتعلة، لقد سمعوا بالمجازر التي حدثت والذل الذي حاق بالخاضعين، وكانت المقاومة التي حث عليها العلماء والشيوخ هي الخيار الباقي، وليس أعظم من مدينة كحلب لتبعث هذه الشرارة، وقاد “ابن الخشاب” -قاضي المدينة وأحد وجهائها المحترمين- غضبَ الرعية العارم على هذا النفوذ الفرنجي في مدينتهم، غير أن رضوان -أمير حلب- لم يعبأ بذلك الغضب، فما كان من القاضي إلا أن قصد بغداد، وبالفعل آتت توسلاته أُكلها عند الخليفة.

وصل الجيش الذي بعثه الخليفة إلى أواسط الشام ليقطع طريق الفرنجة إلى حلب، لكن المفاجأة التي انتظرتهم كانت صاعقة، فهناك بجوار ملك القدس الفرنجي، كان أمير دمشق وجيشه على أُهْبَةِ واستعداد لقتال جيش بغداد، فماذا سيفعل الخليفة وقد خان الأمراء بلادهم؟ لكن الثورة مشتعلة في حلب وبعد موت الأمير رضوان ستكون النتائج جنونية، وستنتقل المدينة بين أيادٍ عديدة ويتقلب سكانها بشدة بين العز والهوان، لكن وسط تلك التقلبات العنيفة أتت نسمة صيف قصيرة حين سلم القضاة حلب إلى الأمير “بَلْك” ليغدو هذا الرجل بعد شهور قليلة بطل العالم العربي ومهبط الأماني والدعاء، فعلى يده كانت هزائمُ قاسية للفرنج وأيامٌ مجيدة للمسلمين، لكن وافته المنية سريعًا، ولما بدا أن الميدان قد خلا للفرنجة، سطع اسم آخر سيكون طلوعه أقسى وأعنف بكثير.
كان الأتابك التركي عماد الدين زنكي قد مهد لنفسه في بغداد وكُوفئ بولاية الموصل وحلب بعد إخماده ثورة الخليفة المسترشد عام 1118م، حين أراد ذلك الشاب أن يملك دولته ويحد من النفوذ التركي في بلاطه، لكن كان عماد الدين هو الذي أنهى تلك الآمال العربية، وكان جيشه مختلفًا عن تلك الأجناد التي تسعى إلى النهب والسلب قبل الحرب والجهاد، وطموح عماد الدين أبعد من أن يكون أميرًا على حلب أو دمشق أو الشام بأكمله، لقد رمى إلى إقامة دولة وتوطيد ملك يضم الشام والعراق وينطح دويلات الفرنجة حتى بيت المقدس، لكن كان الخنجر الغادر مُنهيًا لآماله وباعثًا لجيل جديد.
الفكرة من كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
لا تزال ذكرى الحروب الصليبية حية حارة في أذهان العرب إلى اليوم، ولا تكف الأمثلة عن الظهور طوال الوقت، فمع كل هجوم يقع على العالم الإسلامي من جهة الغرب، لا يتمكن المرء من كبح ذهنه كيلا يرجع إلى تلك الأيام، فدائمًا كانت الحروب الصليبية موردًا غنيًّا للإسقاطات التاريخية، وبوسع العرب والمسلمين أن يجدوا فيها أمثلة لأحداث عصرهم وأبطاله، وإلى اليوم يقتبس الرواة صلاح الدين وسقوط القدس واستعادتها، وغالبًا ما تُوصف إسرائيل بأنها مملكة صليبية حديثة، ففي ثنايا تلك الأحداث كانت بداية العداء الطبيعي بين العرب والغرب، وكانت الحروب الصليبية هي التي حكمت على هذين العالمين بالفراق والحذر الدائم.
مؤلف كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
أمين معلوف: أديب وصحفي لبناني، وُلد في بيروت عام 1949م، ودرس علم الاجتماع في جامعة القديس يوسف، وعمل في شبابه مُحررًا لدى جريدة النهار، ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976م انتقل إلى باريس حيث ما زال مقيمًا إلى اليوم، حصل معلوف على عديد من الجوائز والتكريمات مثل جائزة جونكور الفرنسية عن روايته “صخرة طانيوس”، ومن أهم مؤلفاته:
رواية سمرقند.
الهويات القاتلة.
موانئ المشرق.
عن المترجم:
عفيف دمشقية: لغوي وباحث ومترجم لبناني، ولد ببيروت عام 1931م، حصل على شهادة الماجستير في العلوم اللغوية في الجامعة اللبنانية، ثم حصل على شهادة الدكتوراه لاحقًا من جامعة السوربون في فرنسا، من أعماله:
سمرقند لأمين معلوف.
خفة الكائن التي لا تحتمل لميلان كونديرا.
الأجراس لأيريس مردوخ.