أيام الغزو.. إعصار يجتاح السكارى

أيام الغزو.. إعصار يجتاح السكارى
نبدأ من هناك، في هضبة الأناضول، حيث لم تكد الدولة التركية الوليدة في “نيقية | Νίκαια” تستقبل أيام الدعة والسلام، في ملك الأمير السَّلْجُوقي “قِلِج أرسلان | Kılıç ArslanI” حتى أتت أنباء مقلقة تنذر بجيوش أوربية متجهة إلى الشرق، كانت تلك الأنباء محبطة إلى حدٍّ ما لهذا السلطان الغازي الذي وجه عيونه دومًا إلى المدينة العظيمة المجاورة، القسطنطينية، درة بيزنطة وموطن القيصر، ولا شك أن هذا الجوار قد داعب أحلام الشاب المشبوب بأحلام الغزو والتوسع، فقد كانت عاصمة بلاده “نيقية” حديثة العهد بالإسلام، وإن لهج مواطنوها باسم سلطانهم فقد أسروا في قلوبهم حب القيصر، وكان القضاء على هذا الركن العظيم مؤذنًا بعلو دولته وخلود سيرته، لكن أولئك الغزاة القادمين من شمال أوربا لم يكونوا على عادة المرتزقة السابقين، لقد كانت تلك الجحافل مَقودة بالرهبان المسيحيين مُتوعدة بالقضاء على المسلمين، وقد نزلوا في جوار راعيهم العظيم، سلطان القسطنطينية، ولم يستغرق الأمر طويلًا حتى بدأت أظفار تلك الجيوش تنهب أكناف نيقية، مكلفة قوات السلطان السَّلْجُوقي خسائر فادحة، ولم يكن سليل الفاتحين “ألب أرسلان | Alparslan” ليسكت عن تلك الإهانات، فأعد جيشه ونصب للغزاة فخًّا أهلك به جميع قوتهم وولى الفرنج بعده الأدبار.

أثمل النصر قوات الجيش السلجوقي وقائده، وظنوا أن أمر الفرنج قد هان إلى الأبد، وبينما انشغل أرسلان في منافسة أقرانه من قادة السلاجقة، أقبل جيش فرنجي آخر يسعى إلى الانتقام، وظل أرسلان مهملًا لأمرهم مستهينًا بقوتهم، حتى رأى عاصمة دولته وإرث أبيه “نيقية” محاطة بالجحافل الفرنجية، تكتنفها الصلبان من جميع أطرافها، ولم يكن أمامه إلا الهرب في تيه الأناضول.
ظل هذا السيل العرمرم من الفرنج ضاربًا غاشمًا مطيحًا بالقلاع والحصون في طريقه حتى تسامع جميع الشرق بالجنود الشقر مرتدي الصلبان عديمي الرحمة، وكانت المدينة الكبرى القادمة هي أنطاكية، مدينة أخرى يسعى الفرنجة والقيصر إلى استعادتها منذ زمن.
غير أن أمير أنطاكية لم يغفل عن تلك الجموع لحظة واحدة وهو مدرك أنه لا يستطيع صدها وحيدًا، فطلب المدد من جواره، أميري دمشق وحلب، وكان الأخوان في حرب مستعرة يبدو أنها شغلتهما عن مواجهة العدو، فتجهزت أنطاكية للحصار الطويل.
الفكرة من كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
لا تزال ذكرى الحروب الصليبية حية حارة في أذهان العرب إلى اليوم، ولا تكف الأمثلة عن الظهور طوال الوقت، فمع كل هجوم يقع على العالم الإسلامي من جهة الغرب، لا يتمكن المرء من كبح ذهنه كيلا يرجع إلى تلك الأيام، فدائمًا كانت الحروب الصليبية موردًا غنيًّا للإسقاطات التاريخية، وبوسع العرب والمسلمين أن يجدوا فيها أمثلة لأحداث عصرهم وأبطاله، وإلى اليوم يقتبس الرواة صلاح الدين وسقوط القدس واستعادتها، وغالبًا ما تُوصف إسرائيل بأنها مملكة صليبية حديثة، ففي ثنايا تلك الأحداث كانت بداية العداء الطبيعي بين العرب والغرب، وكانت الحروب الصليبية هي التي حكمت على هذين العالمين بالفراق والحذر الدائم.
مؤلف كتاب الحروب الصليبية كما رآها العرب
أمين معلوف: أديب وصحفي لبناني، وُلد في بيروت عام 1949م، ودرس علم الاجتماع في جامعة القديس يوسف، وعمل في شبابه مُحررًا لدى جريدة النهار، ومع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976م انتقل إلى باريس حيث ما زال مقيمًا إلى اليوم، حصل معلوف على عديد من الجوائز والتكريمات مثل جائزة جونكور الفرنسية عن روايته “صخرة طانيوس”، ومن أهم مؤلفاته:
رواية سمرقند.
الهويات القاتلة.
موانئ المشرق.
عن المترجم:
عفيف دمشقية: لغوي وباحث ومترجم لبناني، ولد ببيروت عام 1931م، حصل على شهادة الماجستير في العلوم اللغوية في الجامعة اللبنانية، ثم حصل على شهادة الدكتوراه لاحقًا من جامعة السوربون في فرنسا، من أعماله:
سمرقند لأمين معلوف.
خفة الكائن التي لا تحتمل لميلان كونديرا.
الأجراس لأيريس مردوخ.