شعب جائع وتراث ضائع

شعب جائع وتراث ضائع
كانت مرحلة ما بعد الاستقلال المرحلة الأشد ضراوة، فقُتل حتى كتابة هذا الكتاب نحو مليون مسلم ألقيت جثثهم في مقابر جماعية، واغتصبت الفتيات والنساء أمام أسرهن، وأحرقت 270 قرية، وجُوع الضحايا حتى الموت ومن نجا من الجوع قضى أمام المخابز بحثًا عن الطعام، وأخذ أطفال الشهداء فنُشِّئوا تنشئة كافرة على يد جمعيات مختصة، وشُنق علماء الإسلام فوق مآذن المساجد التي هدمت في ما بعد، فمن نجا من المذابح لم ينج من الصرع.

ومع ذلك لم يكن عدد الناجين كبيرًا، فقد تكفلت المعتقلات الصربية بجز أعناق الناجين من مجازر المدن والقرى، ففي سراييفو العاصمة وجدت عشرة معتقلات ضمت أكثر من 50 ألف مسلم، وذبح خمسة آلاف مسلم في معتقل بيت الطلبة، واشتهر معتقل مقهى سليموفيتش بهتك أعراض النساء والفتيات بعضهن دون سن السابعة، كما حولت المستشفيات إلى معتقلات ومراكز للتحقيق بعد إجهاض النساء المسلمات وأخذ أجنتهن لإجراء البحوث.
وقد اتَّجَر الصرب في أعضاء المعتقلين بعد انتزاعها حتى أصبحت صربيا أول مركز عالمي لتصدير الأعضاء البشرية إلى المراكز البحثية، لدرجة أن بعض المراكز استغنت عن حيوانات التجارب، كما سحب السجانون الصرب دماء المسلمين وحفظوها في بنوك الدم لإسعاف الجرحى من عصاباتهم.
لم يسلم التراث الإسلامي كذلك من القصف الصربي فدُمر قرابة 250 مسجدًا خلال ثمانين يومًا منذ بداية القصف، وما من مدينة دخلها الصرب إلا وقصفوا مساجدها أو نسفوها حتى اضطر المسلمون إلى إنشاء مساجد تحت الأرض بعيدًا عن القصف الصربي بلغ عددها ثمانمئة مسجد، كما أنشؤوا ثلاثمئة مدرسة استوعبت ستين ألف تلميذ مسلم.
أما المساجد التي سلمت من القصف فحُولت إلى ثكنات عسكرية وساحات إعدام لأئمتها وللمسلمين، وأُحرقت المكتبات بما تحويه من وثائق ومخطوطات نادرة، كما أُحرق معهد الدراسات الشرقية في سراييفو الذي عُد من أهم مراكز العلم والبحث، إذ احتوى على أكثر من خمسة آلاف مخطوطة باللغات العربية والتركية والفارسية والبوسنية ومئتي ألف وثيقة يرجع بعضها إلى القرن السادس عشر.
الفكرة من كتاب البوسنة والهرسك: نكبة المسلمين المعاصرة
كأننا في عام 1995م والحرب على أشدها في أرض غالية عُبد فيها الله سبحانه، كأننا نستمع لمراسل حرب عاش أجواءها وهو يمدنا -بعد بضع سنوات من اندلاعها- بتفاصيل المجازر وأعداد الشهداء وأحوال النازحين، نتابع معه أحوال تلك البلاد التي بلغت القاع وظُن أنها أندلس جديدة، يصيبنا اليأس، نتحسر، نبكي على انحداراتنا التي لم تعد تُحصى ثم نبتهج.. هناك أمل يلوح في الأفق، المقاومة بخير، وهي تدحر العدو عن أراضي الإسلام شيئًا فشيئًا، المجتمع الدولي مرتبك، والخصمان عنيدان، وخطة السلام المقترَحة تبدو مجحفة لأصحاب الأرض، فإلى أين تسير الأمور؟ هل ستضع الحرب أوزارها أم إن المجازر ستستمر؟
مؤلف كتاب البوسنة والهرسك: نكبة المسلمين المعاصرة
محمود بيومي: كاتب وصحفي مصري ولد عام 1946م، درس اللغة العربية في كلية الآداب جامعة عين شمس، وعمل رئيسًا لتحرير مجلة العربي في الفترة من 1992م إلى 2000م، وقد ألف عدة كتب منها:
اعتقال شعب: مأساة المسلمين في آسيا الوسطى.
الإسلام في خطر.