ما السواء؟

ما السواء؟
إن تعريف السواء ليس بالأمر الهين أو السهل في عصرنا الحاضر، إذ تقلص السواء بشكل محزن ومثير للقلق، فالقواميس عجزت عن إيجاد معنًى وافٍ لها، والفلاسفة مختلفون حوله، والأطباء النفسيون يشككون في وجوده لدرجة أن أصبح كل واحد منا مريضًا نفسيًّا بشكل أو بآخر! وهذا الفشل في تعريف السواء يرجع إلى عدم قدرة الطب الحديث على إيجاد تعريف عملي للصحة أو المرض جسديًّا كان أم نفسيًّا، وفي مجال الطب النفسي تحديدًا يُعد غياب الفحوصات البيولوجية من سلبيات الطب النفسي، ويعني أن جميع التشخيصات النفسية مبنية على أحكام ذاتية قابلة للخطأ وعُرضة للتغيرات والتقلبات!

فالثقافة والعادات البشرية تختلف بشكل كبير من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى آخر، فعلى سبيل المثال، قبل مئتي عام كانت السن الطبيعية للزواج هي “سن البلوغ” التي يمكن أن تكون 13 سنة أو أقل، لكن الآن يصنف الزواج وفقًا لهذا المعيار جريمة في كثير من المجتمعات، وأصبح من الطبيعي أن يتزوج الإنسان في سن يتوقع أن يموت فيها! وهنا يثور تساؤل هام: كيف نفرق بين ما هو اضطراب نفسي وما هو غير ذلك؟ هل الخوف بالنسبة إلى الطاعنين في السن طبيعي راجع إلى التقدم في السن، أم هو خوف مرضي؟ هل الزواج بمراهقة أمر طبيعي أم جريمة وعلامة على البيدوفيليا؟
قبل مئتي عام كان عدد الاضطرابات النفسية والعقلية ستة فقط، أما اليوم فعددها يتجاوز المئتين، وهو ما يُشير إلى أن مجتمعاتنا صارت نهمة لقبول تصنيف المخاوف البارزة على أنها اضطرابات نفسية وعقلية، والتطرف في كلا الجانبين خطأ كبير، فلا يجوز التوسع في مفهوم الاضطراب النفسي لدرجة طمس السواء، أو التوسع في مفهوم السواء لدرجة طمس الاضطراب النفسي، إن التمييز بين السليم تمامًا والمريض بشكل واضح لا لبس فيه، لكن المشكلة تظهر عند التمييز بين المريض بشكل معتدل والمريض السليم، ففي هذه الحالة يسهل التلاعب وتظهر الاختلافات.
ومعظم البشر تأتيهم أعراض عابرة نتيجة حادث ما ثم تنتهي، كالحزن نتيجة فقد شخص عزيز، أو القلق نتيجة اختبار أو مقابلة هامة، أو العجز الجنسي بسبب الضغوط الحياتية، وغيرها أمور كثيرة كهذه يُساء فهمها وتُشَخَّص على أنها اضطراب نفسي، ومثل هذه التشخيصات المتسرعة غير الدقيقة تعمل على تسليع المريض، لأنها تعمل على توسيع مستهلكي الأدوية والحبوب النفسية، ومن ثم لا تخدم إلا شركات الأدوية التي تسعى بشكل حثيث للوصول إلى الجميع من أصغر طفل إلى أكبر بالغ.
الفكرة من كتاب إنقاذًا للسواء.. ثورة مُطلع ضد تضخم التشخيصات النفسية DSM-5، شركات الأدوية الكبرى، وتحويل حياة السواء إلى حياة مرضية
يرى آلن فرانسيس أنه في الوقت الذي يشعر فيه مواطن في آسيا أو إفريقيا أن بلاده متأخرة في مجال فهم علل النفس البشرية والطب النفسي، يوجد مواطن آخر في الولايات المتحدة وأوربا يتلقى تشخيصًا كاذبًا، ويأخذ علاجًا دون الحاجة إليه بسبب ترويج أمراض زائفة، الهدف من ورائها تحقيق الربح لشركات الأدوية الكبرى، لذا يؤكد المؤلف أهمية وضع حد فاصل بين المرض والسواء للحفاظ على حياة الأشخاص الطبيعيين والأسوياء، فليس كل حزن يعد اكتئابًا، وليس كل طفل كثير الحركة يُشخص بأنه مصاب بفرط الحركة وتشتت الانتباه، ويحذر المبالغةَ في تشخيص السواء، فالمجتمعات ليست غالبيتها مريضة، بل العكس.
مؤلف كتاب إنقاذًا للسواء.. ثورة مُطلع ضد تضخم التشخيصات النفسية DSM-5، شركات الأدوية الكبرى، وتحويل حياة السواء إلى حياة مرضية
آلن فرانسيس: هو أستاذ فخري ورئيس سابق لقسم الطب النفسي والعلوم السلوكية في كلية الطب بجامعة ديوك، ترأس فريق عمل الدليل التشخيصي والإحصائي الرابع DSM4، وكان مساعدًا مع المجموعة الرئيسة للدليل التشخيصي والإحصائي الثالث DSM3، من مؤلفاته:
Differential Therapeutics
Your Mental Health
Essentials of Psychiatric Diagnosis
معلومات عن المترجم:
سارة اللُّحَيْدَان: مترجمة سعودية، من ترجماتها:
نضال من أجل الرحمة: بناء التعاطف داخل عالم ممزق.
الأسس الثقافية للتحليل النفسي السياسي.