سنوات الطفولة الضائعة.. أذهان قلقة
سنوات الطفولة الضائعة.. أذهان قلقة
علينا التساؤل حول الرغبة الملحة التي تنزل بالآباء لإسناد مسؤولية تعليم أطفالهم إلى المدارس والمعلمين، فما إن يشارف الأبناء على الخامسة أو السادسة، يتعجل الأب رؤية طفله يرطن أمامه بما يحفظ، ولكن كل هذا الحشو يكاد يكون بلا طائل، من الظلم أن نشكك في رغبة الأب بالعناية والاهتمام بولده، لكن أفضل ما يُهديه لولده في هذه السن، ليست الكلمات المرصوصة السابقة لأوانها، لكنه الأسلوب والنموذج الذي سيهتدي به هذا الولد في بقية حياته، من غير المتوقع أن يثبت المحفوظ في عقل ذي الخامسة إلى سن العشرين، لكن ما يعتاده من تنظيم لأدواته وترتيب لأوراقه، ثم التأمل والسؤال حول ماهية الأشياء، هو الذي سيعينه في المواقف التي تتطلب الفكر المرتب والذهن المشحوذ، والخيال الجامح.
وهذه الملكة إذا نمت وترسخت في عقل الناشئ، أصبح جاهزًا لأي علم، مُقبلًا على أي غامض، فلا شك إذًا أن هذه الصفة هي جوهر كل نشاط يتعلق بالتربية، لكن هذا الغرض يضيع بين أوقات الامتحانات والحفظ والمراجعة، فيجد الطلاب بعد أن خرجوا إلى الدنيا، أنهم قد أضاعوا جُل أوقاتهم. إن الذهن القادر على عرض أي مشكلة وتفصيلها، وإنزالها من كهفها الغامض إلى الشمس الساطعة، هو المطلب والمنوط به أن يتسامى إلى الصفوف الأولى، وعقل كهذا العقل لا ينمو بتضييع بذرة الأعمار في حفظ وترديد ما لا يفهمه النشء، بل بإعمال العقل في كل ما يقع تحت أبصارهم؛ إن تعليم المدارس يحجب رؤيتهم، يرون الدنيا حولهم تهتز بالحياة، ولكن أنظارهم لا تتعدى ما حفظوا وما عرفوا.
ولا ينفذ العلم إلى العقول بالعصا، وسطوة المُعلم أو المنهج على الطالب تجعله خائفًا متحفزًا نحو دراسته، يتعجل الموعد الذي يُنهي عذابه فيه، ولا سبيل إلى رحلة علم ممتعة مثمرة، إلا إذا وجد التلميذ في نفسه ميلًا إلى دراسته، بل ميلًا وحبًّا لأستاذه، حينها يوشك الدرس أن يكون نهرًا جاريًا بين الطرفين، لا تنطلق الكلمة من فم الأستاذ، حتى تجد مكانها المعد في عقل تلميذه.
الفكرة من كتاب من والد إلى ولده: رسائل في التربية والتعليم والآداب
إن مشاعر البشر، على شدة تقلبها واختلافها، لا توجد بها عاطفة أكثر قوة وصفاءً من مشاعر الآباء تجاه أبنائهم وحبهم لهم، قد تسطو أحيانًا على نفس المرء عواطف أخرى، مثل الانتقام والطموح، لكنها تظل مشوبة بالأنانية متعلقة برغبات دنيئة، أما حب الوالد لولده، فلا فعل يُثنيه عنه، ولا طائل ينتظره الأب من هذا الولد ليبذل له حبه وحنانه، بل يُفني الأب نفسه في هذا الحب، ويسهر على رعايته الليل والنهار، حتى يتم سناه، ويرى ابنه قد سما عليه في سماء المجد، فلا حسد ولا مقت، لكنها سعادة تفضحها الدموع.
نطلع في هذه المراسلات العذبة، بين الأستاذ أحمد حافظ وولده، على شيء من هذا الحب، إذ يُسدي الأب الأديب الذي خبر أمور السياسة، وذاق من الحياة ما ذاق، إلى ولده خلاصة تجربته، ويُرشده إلى الصراط الذي يُعده لبلوغ المعالي، وهي نصائح جديرة بكل مُربٍّ أن يقرأها بتمعن، ثم يُنزلها على الحال الذي يريد، نفثات من صدر والدٍ مُحب إلى قلب ابن بار إن شاء الله.
مؤلف كتاب من والد إلى ولده: رسائل في التربية والتعليم والآداب
أحمد حافظ عوض بك: الكاتب والأديب والسياسي، ولد عام 1874م، في مدينة دمنهور بالبحيرة، حيث التحق بالكُتاب، ثم أتم تعليمه في الأزهر، عمل سكرتيرًا خاصًّا ومترجمًا للخديوي عباس حلمي الثاني، وشغل منصب رئيس تحرير جريدة المؤيد، ثم أصدر صحيفتي الأهالي والآداب، من مؤلفاته:
فتح مصر الحديث: نابليون بونابرت في مصر.
رواية اليتيم.