نصر الثقافة “الصغير”
نصر الثقافة “الصغير”
أجريت عديد من الدراسات على لغات المجتمعات البُدائية البسيطة، أهمها كانت تجربة علمية على جزيرة نائية يصف أهلها الألوان بطريقة مبهمة أشبه بوصف القدامى، ركز فحص العلماء على بصرهم، وبعد اختبارات عدة لما يزيد على مئتي شخص، لم تظهر أية حالة مصابة بعمى الألوان، ومع أنهم يستطيعون التفرقة بين كل الألوان ورؤيتها بنفس الحدة والوضوح الذي نرى به، قد تجد من بينهم من يرفع بصره إلى السماء الزرقاء الصافية ويخبر بلا تردد أنها سوداء.
أثبتت الدراسات الأخرى للمجتمعات البُدائية حول العالم أن الرؤية واحدة عند جميع الأجناس المختلفة وحتى في الزمن القديم، فما سبب علاقتهم العوجاء بتسمية الألوان إذًا؟ يبدو أن القدماء استطاعوا رؤية الألوان كما نراها، وأن النقص الظاهر في مصطلحاتهم للألوان ما هو إلا تطورات ثقافية، وهنا تفوز الثقافة بالاعتراف الأول لتأثيرها في اللغة.
غير أن هناء النصر لن يستمر طويلًا، فإن كانت تسمية الألوان ما هي إلا نتاجًا ثقافيًّا، فمن المفترض أن تتطور مصطلحات الألوان بشكل عشوائي حسب كل مجتمع ولغة، ولكن الواقع لا يتفق مع ذلك، فبعد إجراء دراسة مقارنة لأسماء الألوان في عشرين لغة، اكتُشِفَ أن ظهور مصطلحات الألوان ليس عشوائيًّا أبدًا، فإن اللغة تكتسب أسماء الألوان بترتيب متوقع ومراكز ثابتة في كل اللغات، واتضح في ما بعد أن بعض اللغات لم تحاكِ هذا الترتيب، ولكن الغالبية العظمى من اللغات تظل تتبع تلك المراكز بشكل يصعب إسناده إلى عشوائية أسماء الألوان حسب أهواء كل ثقافة.
يمكن الانتهاء في هذه النقطة إلى أن الثقافة تؤثر في لغة الألوان ضمن حدود تفرضها الطبيعة، أي طبيعة عقل الإنسان والعالم الخارجي، وإن كانت هذه الحدود غير واضحة في بعض الأحيان، وإن لم تكن الكلمة العليا من نصيب الثقافة، فيكفي الإقرار بتأثيرها في اللغة، وحاليًّا في ضوء ما يملكه الباحثون من العلم والمعرفة يمكنهم أن يطمحوا إلى ما هو أبعد من ذلك!
الفكرة من كتاب عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟ عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟
لنقل أنك بعد تأملك في السماء الصافية وجهت سؤالًا واحدًا إلى ثلاثة أشخاص من جنسيات مختلفة، وكان السؤال هو “كيف تبدو السماء؟”، فجاءتك الإجابات كالتالي: “السماء جميلة وسوداء”، “السماء جميلٌ ولونه أزرق”، “السماء جميل/ة كالنحاس”.
إن كنت تقرأ هذه السطور بلسان عربي، فمن المؤكد أن تلك الإجابات تبدو غير عقلانية بالنسبة إليك، وبعيدة تمام البعد عن الواقع والحقيقة والمنطق، والأغلب أنك ستشكك في صدق المتحدثين أو سلامة قواهم العقلية.
ولربما ستشك في قواك العقلية إن علمت بالفعل بأن الثلاث جمل لا تشكو من خلل، وأنها منطقية وسليمة عقلانيًّا ولُغويًّا، وأن الفيصل الوحيد الذي يمكن الرجوع إليه هنا هو اللغة الأم لقائل كل جملة. إن الاختلافات البسيطة بين اللغات تبدو واضحة وضوح الشمس إن صِيغَت بهذه الطريقة، ولكن هل هي مجرد اختلافات لغوية؟ أم أنها تعبر عن اختلافات ثقافية ولغوية؟ وهل اللغة مجرد أداة، أم هي الصانع؟ ومن أين تأتي اللغة في الأساس؟ هل هي نتاج ثقافي، أم موروث طبيعي؟ هل تشكلنا اللغة أم نشكلها نحن؟
مؤلف كتاب عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟ عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟
غاي دويتشر :زميل باحث فخري بقسم اللغات واللغويات والثقافة في جامعة مانشستر، حصل على درجة الدكتوراه في اللسانيات من جامعة كامبريدج، وأجرى عديدًا من الأبحاث في اللسانيات التاريخية هناك، كما عَمِل أستاذًا في قسم اللغات والثقافات في الشرق الأدنى القديم بجامعة ليدن بهولندا.
من مؤلفاته:
كتاب “تجلي اللغة: جولة تطويرية عبر أعظم اختراع إنساني”.
معلومات عن المترجمة:
حنان عبد المحسن مظفّر
نائبة رئيس الجامعة لشؤون الطلبة في الجامعة الأمريكية بالكويت، وحاصلة على الدكتوراه في الأدب والنقد من جامعة إنديانا في بنسلفانيا، شغلت منصب أستاذ مساعد سابق في قسم اللغة الإنجليزية وقسم الدراسات العليا بجامعة الكويت، ولها عديد من الأبحاث المنشورة في النقد الأدبي والأدب الأمريكي، وفي الوقت الحالي هي عضوة في هيئة تحرير سلسلة «إبداعات عالمية» الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وقد ترجمت بعض الأعمال المهمة التابعة للسلسلة، ومن أمثلتها:
“ما بعد الإنسان” لروزي بريدوتي.
رواية “جمعية غيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطا” لماري آن شيفر.