العالَم القديم بالأبيض والأسود وبعض من الأحمر
العالَم القديم بالأبيض والأسود وبعض من الأحمر
نشر جلادستون -رجل السياسة البريطاني- في عام 1858م دراسة عن هوميروس كاتب الإلْياذَة والأودِيسَّة، وفيها خصص فصلًا كاملًا يناقش غرابة ألوان هوميروس، فبعد التحليل العميق لأشعار هوميروس النابضة بالحياة تبين خلوها من بعض الألوان الأساسية الموجودة في الطبيعة، أي ألوان المنشور الثلاثي، كان شيئًا مثيرًا للاهتمام أن يصور شاعر الطبيعة من حوله بكل ما فيها بشاعرية تامة، ويغفل مثلًا عن زرقة البحر أو السماء، أو يشبههما بألوان بعيدة كل البعد عن الأزرق، والغريب بحق أن الأزرق نفسه يختفي تمامًا من كل أشعاره، فالبحر مظلم كالنبيذ، والسماء حافلة بالنجوم أو بلون الحديد والنحاس عنده.
والأغرب من ذلك أن تلك الظاهرة تتكرر في أعمال الإغريق والهنود القدامى وحتى بعد هوميروس بعدة قرون، ولتفسير هذه الظاهرة العجيبة بدأ العلماء من كل النواحي في دراسة وتحليل النصوص القديمة التي ترجع إلى حضارات مختلفة، وشرعوا في وضع احتمالات للتفسير، منها احتمالية إصابة القدامى بنوع من عمى الألوان، أو عدم تطور عضو العين أو حاسة الرؤية إلا في تاريخ متقدم، أو أن لغياب الألوان الاصطناعية دورًا هَامًّا، تعددت الاحتمالات، وفي كل الأحوال لم يستطع أحد تفسير اختفاء الألوان في كتابات القدامى، الذي يظهر كأنهم يرون العالم بالأسود والأبيض فقط مع لمحات بسيطة من الأحمر.
اللافت للنظر هنا هو نبذ كل الاحتمالات والتخيلات التي أسندت خلل مسميات الألوان إلى خلل في اللغة نفسها أو الثقافة، وكانت كل المعطيات وقتها تؤكد حتمية بيولوجية السبب، لأن الألوان في الأصل من أساسيات الإدراك الحسي، ولم يكن من المنطقي أبدًا أن يختار من يستطيع إدراك الألوان وتمييزها ألا يعبر عنها في لغته، غير أنه سيتبين العكس، وعلى الرغم من أن الباحثين لا يستطيعون أن يفحصوا بصر القدامى، فإنهم يستطيعون دراسة المجتمعات البسيطة التي تشبه لغاتها ولغات ألوانها لغات ألوان العالم القديم.
الفكرة من كتاب عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟ عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟
لنقل أنك بعد تأملك في السماء الصافية وجهت سؤالًا واحدًا إلى ثلاثة أشخاص من جنسيات مختلفة، وكان السؤال هو “كيف تبدو السماء؟”، فجاءتك الإجابات كالتالي: “السماء جميلة وسوداء”، “السماء جميلٌ ولونه أزرق”، “السماء جميل/ة كالنحاس”.
إن كنت تقرأ هذه السطور بلسان عربي، فمن المؤكد أن تلك الإجابات تبدو غير عقلانية بالنسبة إليك، وبعيدة تمام البعد عن الواقع والحقيقة والمنطق، والأغلب أنك ستشكك في صدق المتحدثين أو سلامة قواهم العقلية.
ولربما ستشك في قواك العقلية إن علمت بالفعل بأن الثلاث جمل لا تشكو من خلل، وأنها منطقية وسليمة عقلانيًّا ولُغويًّا، وأن الفيصل الوحيد الذي يمكن الرجوع إليه هنا هو اللغة الأم لقائل كل جملة. إن الاختلافات البسيطة بين اللغات تبدو واضحة وضوح الشمس إن صِيغَت بهذه الطريقة، ولكن هل هي مجرد اختلافات لغوية؟ أم أنها تعبر عن اختلافات ثقافية ولغوية؟ وهل اللغة مجرد أداة، أم هي الصانع؟ ومن أين تأتي اللغة في الأساس؟ هل هي نتاج ثقافي، أم موروث طبيعي؟ هل تشكلنا اللغة أم نشكلها نحن؟
مؤلف كتاب عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟ عبر منظار اللغة: لم يبدو العالم مختلفًا بلغات أخرى؟
غاي دويتشر :زميل باحث فخري بقسم اللغات واللغويات والثقافة في جامعة مانشستر، حصل على درجة الدكتوراه في اللسانيات من جامعة كامبريدج، وأجرى عديدًا من الأبحاث في اللسانيات التاريخية هناك، كما عَمِل أستاذًا في قسم اللغات والثقافات في الشرق الأدنى القديم بجامعة ليدن بهولندا.
من مؤلفاته:
كتاب “تجلي اللغة: جولة تطويرية عبر أعظم اختراع إنساني”.
معلومات عن المترجمة:
حنان عبد المحسن مظفّر
نائبة رئيس الجامعة لشؤون الطلبة في الجامعة الأمريكية بالكويت، وحاصلة على الدكتوراه في الأدب والنقد من جامعة إنديانا في بنسلفانيا، شغلت منصب أستاذ مساعد سابق في قسم اللغة الإنجليزية وقسم الدراسات العليا بجامعة الكويت، ولها عديد من الأبحاث المنشورة في النقد الأدبي والأدب الأمريكي، وفي الوقت الحالي هي عضوة في هيئة تحرير سلسلة «إبداعات عالمية» الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، وقد ترجمت بعض الأعمال المهمة التابعة للسلسلة، ومن أمثلتها:
“ما بعد الإنسان” لروزي بريدوتي.
رواية “جمعية غيرنزي للأدب وفطيرة قشر البطاطا” لماري آن شيفر.