وحي العمر
وحي العمر
كان العقاد في مقتبل شبابه واقعيًّا إلى أبعد حد، فلمَّا جاوز الأربعين صار ينكر قدرة الإنسان على إدراك الواقع كله، وكانت أخلاقه وخصاله -كما يصف نفسه- في حالة من الفوران والثورة ثم ما لبثت أن جنحت إلى الاستقرار بعد الأربعين، فالسن لا تغير الطباع وإنما تنقلها من الغليان والهياج إلى الهدوء والاستقرار.
وأما سن الخمسين فكما يقول فيكتور هوجو هي “شباب الشيخوخة”، فالخمسون هي نهاية التحصيل والكسب وبداية العطاء والبذل، وهي في لوحة العمر ذروته وسنامه، فهي المنتصف بين ضعف الطفولة وضعف من بلغ المائة، فيها تزداد القدرة على التمييز وتقييم الأمور، ولها فضيلة -كما يقول العقاد- هي فضيلة المال المحسوب والثروة التي لا تزيد يومًا بعد يوم ولكنها لا تضيع بلا طائل.
وحين سُئل العقاد عند بلوغه الستين هل كانت تلك نقطة تحول في حياته؟
فأعاد تعريف الحياة في جوابه وأن السنوات لم تكن يومًا الحد الفاصل بين عمرين، ولكن الفترة التي تمَّت بها الستون تختلف عما قبلها، فقد ازدادت قدرته على البحث والدراسة، وازدادت خبرته ومرانه على الكتابة وتقييد الفوائد، ولكن ذلك قابله ضعف في الكتابة والقراءة، وقد ازدادت حماسته لما يعتقد من الآراء وقلّت مخاصمته عليها، وارتفعت عنده مقاييس الجمال حتى لم يعد يرى الحياة تلك الحسناء التي كانت تفتنه في مقتبل الشباب.
وأما عمر السبعين فإنه موضع إعطاء كل شيء حقه في غير مبالغة ولا تقليل، عمر الرضا والقناعة وعمر الفطنة والفراسة، فيها تعرف في عشرين ساعة رجلًا كنت تحتاج في شبابك عشرين عامًا حتى تعرفه، وفيها تختار من الحياة ما تشتهيه لا ما تعرضه عليك، وفيها كل جديد لا تشتهيه الأنفس ولكنه يذهب بسآمة التكرار، فالسبعون عند العقاد عمر لا يقبل المساومة ولا يقايض به الشباب.
الفكرة من كتاب أنا
يبدو العقاد في نظر الكثيرين جبارًا وحادًّا مع من يخالفه، ويظن الناس به صلابة لم تُعهد في عالم الأدب، وما أكثر ما يرميه الناس بالعزلة والانطواء وعدم فَهم واقع الحياة لقلة اختلاطه بها ولطول ما عايش الكتب، ولكنه في هذه السيرة الذاتية يكشف عن جانب من حياته الخاصة، يكشف عن طفولته وعن طباعه وأخلاقه، ويزيح الستار عن فلسفته في الحياة والحب والقراءة والكتابة، ويتكلَّم عن نفسه كما يراها هو لا كما يراها الناس.
مؤلف كتاب أنا
عباس محمود العقاد: أديب وشاعر ومفكر وفيلسوف وسياسي وصحفي، ولد في محافظة أسوان في الثامن والعشرين من شهر يونيو لعام 1889م، وتلقى التعليم الابتدائي الذي اكتفى به عن غيره من مستويات التعليم.
حصل على عضوية المجمع اللغوي وتم تكريمه كثيرًا، ومنحه الرئيس جمال عبد الناصر عام 1959 جائزة الدولة التقديرية ويشاع أنه رفض تسلُّمها، كما منحته جامعة القاهرة درجة الدكتوراه الفخرية فرفضها.
وقد اقترن اسم العقاد بكثير من المعارك الأدبية والفكرية مع كبار شعراء وأدباء عصره، وخاض كذلك العديد من المعارك السياسية، ولكن ذلك كله لم يمنعه أن يكون مؤلفًا مُكثرًا ومجيدًا فتجاوزت مؤلفاته المائة، ومن أشهر كتبه:
العبقريات.
الفلسفة القرآنية.
ساعات بين الكتب.
أشتات في اللغة والأدب.
التفكير فريضة إسلامية.