استطراد لا ينتهي.. أدباء فقط
استطراد لا ينتهي.. أدباء فقط
قد عرفنا كسل المازني، ولكن حين يتعلق الأمر بالكتابة فليس الكسل وحده هو المانع، لكن الكتابة بالنسبة إلى المازني أشق وأضنى ما يُلاقي في يومه، فإذا واتته الرغبة وحُببت إليه فتنة القول، أخذ يُخادعها بالنوم ويُشاغلها بشتى الأفكار والصور، لكن يطغى عليه الشعور وتغلبه هذه الرغبة، فيرى نفسه مأخوذًا كالعاشق، لا يرى نهاية لطريقه، ولا يتوانى في الانعطاف وراء محبوبته أين سارت، فكذلك المازني إذا شرع في الكتابة، يهتم بمعالجة كتاب أو بحث ما، ثم تراه عرج إلى موضوع آخر، ولا تزال تلك المواضيع تتوالى وتتوالد حتى لا يدري ماذا كانت غايته في بداية الكتابة، وهذه الصفة أصل في المازني، فحين يتكلم لا يُقيد لسانه قليلًا أو كثيرًا، وكذلك الحال في ماله وكتبه، ولكن كما أورثته هذه الصفة الناتج الغزير، فقد ندم على عجلته في التأليف والنشر المتعجل في مُقتبل العمر، وتمنى لو صبر وراجع، لكن المازني الذي عرفناه لن يشغله هذا الخاطر كثيرًا، وعلى حد قوله: ماذا سيزيد الأدب إذا كتب المازني؟ وماذا سينقص لو لم يكتب؟
ويبدو أن إتقان الصنعة وجودة الأسلوب تُغري الناس أن يتوهموا في أدبائهم قدرة على حل المشكلات التي تضرب مجتمعاتهم، فكأنهم يقولون: ما فائدة ما تكتبون؟ بل ما فائدة هذا الأدب وهذه المجلات التي نشتريها إذا لم تصلحوا حالنا وتقيموا نهضتنا؟! ولكن ماذا في وسع الأدباء غير القول؟ فلا أحد يجهل أن الحال سيئة، إذًا فالمطلوب من الأدباء أن يُوجعوا الرؤوس بالكلام، فينوحوا كل أسبوع في مقالة لقاء الاشتراك الذي يدفعه القراء، فليصمتوا أكرم لهم من هذا المآل، وليست غاية الأدب الوحيدة أن يعتني بالإصلاح أو أن يخدم المجتمع، وهو عندما يفعل، لا يكون هذا الإصلاح هو المقصد، لكنه ربما يُسهم في إثارة التساؤلات وشحذ الأذهان واستنفار الهمم.
الفكرة من كتاب العمر الذاهب: رحلة المازني المعرفية من القراءة إلى الكتابة
هذه السيرة ليست كما اعتدنا من سير الأعلام والكتاب، فقليل من الأدباء من يمتلك هذه الصراحة التي لم يتحرج المازني من بثها في جميع مقالاته، فنراه كثيرًا ما يتطرق إلى كتابته، فيذكر ندمه على كثير مما كتب وتعجبه من إشادة القراء بما يكتب، ثم هل يجرؤ كاتب في بداية القرن العشرين أن يُصرح بعدم فهمه للفلسفة؟ ومعرفته لفضل أساتذته وأقرانه حتى من باعد الخلاف بينه وبينهم؟ وإنك على مدار الكتب لتجد من هزله ما تحسبه جدًّا، ومن فكاهته ولا مبالاته وسخريته ما يُحيرك، فلا تخلط هذا بذاك، وتوخَّ المعنى البعيد الذي تكشفه طريقته في المبالغة وفهمك لطبيعة شخصيته.
وقد تحرى مُعد هذا الكتاب أن تكون جميع المقالات حول ما اتصل بالقراءة والكتابة وشؤونهما في مؤلفات المازني، فيكون الكتاب أقرب إلى تصنيف الأدب وأشبه بسيرة ذاتية تصف أحوال صاحبها وتعكس روحه وتتتبع آراءه وتجربته.
مؤلف كتاب العمر الذاهب: رحلة المازني المعرفية من القراءة إلى الكتابة
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعر وأديب وصحفي، وُلد المازني عام 1889م بمحافظة القاهرة، بعد تخرجه في المدرسة الثانوية رغب المازني في دراسة الطب، لكنه عدل عنه إلى الحقوق ثم انتهى به الأمر في مدرسة المعلمين، اشتغل بالتدريس بعد تخرجه، لكنه ضاق بقيود الوظيفة وآثر الصحافة، عُرف عنه أسلوبه الساخر الرشيق الذي ينتمي إلى السهل الممتنع، كما كان بارعًا في الإنجليزية ونقل عديدًا من أشعارها إلى العربية. من مؤلفاته:
صندوق الدنيا.
حصاد الهشيم.
عود على بدء.
رواية إبراهيم الكاتب، بجزئها الثاني: إبراهيم الثاني.
معلومات عن المُحرر:
عبد الرحمن بن حسن قائد: نال درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية، ثم حصل على الدكتوراه، قرأ على طائفة كبيرة من العلماء في مختلف الفنون ولازم بعضهم وحفظ جملة من المتون العلمية، عمل أستاذًا للحديث وعلومه في المركز العلمي لتعليم القرآن والسنة بجدة (تحت إشراف جامعة أم القرى)، كما شارك في مشروع آثار ابن تيمية وابن القيم والشنقيطي والمعلمي الذي أشرف عليه الشيخ العلامة بكر أبو زيد رحمه الله، عمل محققًا ومراجعًا ومصححًا من سنة 1423م حتى اليوم.
من تحقيقاته:
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن القيّم.
الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيّم.