سيرة الصبا.. شهية لا تكتفي
سيرة الصبا.. شهية لا تكتفي
كان المازني في صباه مولعًا بالقراءة والاطلاع، يشبه في ذلك معظم أقرانه في ذلك العصر، ورغم ضيق العيش فقد كان يُحسِن تنظيم موارده، فما إن يهل الشهر الجديد، نجد المازني يخف إلى بائع الكتب ليقتني زاده، ويصد عتاب والدته فيقول لها: سمنك مؤونتك، أما مؤونتي فهذه الكتب، ويبدو أن علاقة صداقة قد نشأت بين المازني والأديب عبد الرحمن شكري منذ المدرسة الثانوية، فكانا يتبادلان الكتب والنصح والإرشاد كذلك، وكان شكري هو من وجه المازني إلى قراءة الأدب الجاهلي ثم البناء عليه، فلم يُنهِ كلاهما المدرسة الثانوية إلا وقد تعرف أمهات الكتب في الآداب العربية والغربية.
وفي بداية القرن الماضي، لم تكن الكتب والمخطوطات العربية قد نالت من العناية والتحقيق ما هي عليه اليوم، وكان المازني أحد الكثيرين الذين ذاقوا عناء هذا الإهمال، فأول عهد له بطبعة من كتاب “الأغاني” للأصفهاني كان بها كثير من الأخطاء والروايات التي تحتاج إلى مراجعة، وكان عنفوان الشباب ما زال يخالج صاحبنا، فأصر على أن يراجع هذه النسخة ويصححها بيتًا بيتًا، حتى صار حجمها ضعف ما كان، ولنا أن نتخيل حزن المازني وبؤسه حين اضطر إلى بيع الكتاب، ولكن مذهبه في الكتب أنها كالطعام؛ ربما تنسى ما أكلت، ولكن هذا لا ينفي حدوث المنفعة.
فهذا دأب المازني مع الكتب، وهذه حاله مع القراءة، لكن شهيته التي لا تكتفي أغرته دائمًا بأن هناك مزيدًا، فماذا لو زاد أبو العلاء من أمثال “رسالة الغفران”؟ وماذا لو تعرف الجاحظ فن القصة القصيرة؟ والمتنبي أيضًا، أليس من الغرابة على رجل مثله بهذه الهمة وهذا الانفعال ألا يترك وراءه سوى أقل القليل؟ فماذا لو ترك لنا شيئًا من النثر عن رحلته وسيرته مع كافور؟ وقد أخذت هذه الأحلام بالمازني أن يطمح إلى كتابة أول رواية عربية، ولكن الحيطة والحذر أغرياه بأن يعتني بهذا الحلم، حتى يخرج لائقًا بهذا المقام، إلى أن سبقه الأستاذ هيكل بـ”زينب”، أول رواية عربية.
الفكرة من كتاب العمر الذاهب: رحلة المازني المعرفية من القراءة إلى الكتابة
هذه السيرة ليست كما اعتدنا من سير الأعلام والكتاب، فقليل من الأدباء من يمتلك هذه الصراحة التي لم يتحرج المازني من بثها في جميع مقالاته، فنراه كثيرًا ما يتطرق إلى كتابته، فيذكر ندمه على كثير مما كتب وتعجبه من إشادة القراء بما يكتب، ثم هل يجرؤ كاتب في بداية القرن العشرين أن يُصرح بعدم فهمه للفلسفة؟ ومعرفته لفضل أساتذته وأقرانه حتى من باعد الخلاف بينه وبينهم؟ وإنك على مدار الكتب لتجد من هزله ما تحسبه جدًّا، ومن فكاهته ولا مبالاته وسخريته ما يُحيرك، فلا تخلط هذا بذاك، وتوخَّ المعنى البعيد الذي تكشفه طريقته في المبالغة وفهمك لطبيعة شخصيته.
وقد تحرى مُعد هذا الكتاب أن تكون جميع المقالات حول ما اتصل بالقراءة والكتابة وشؤونهما في مؤلفات المازني، فيكون الكتاب أقرب إلى تصنيف الأدب وأشبه بسيرة ذاتية تصف أحوال صاحبها وتعكس روحه وتتتبع آراءه وتجربته.
مؤلف كتاب العمر الذاهب: رحلة المازني المعرفية من القراءة إلى الكتابة
إبراهيم عبد القادر المازني: شاعر وأديب وصحفي، وُلد المازني عام 1889م بمحافظة القاهرة، بعد تخرجه في المدرسة الثانوية رغب المازني في دراسة الطب، لكنه عدل عنه إلى الحقوق ثم انتهى به الأمر في مدرسة المعلمين، اشتغل بالتدريس بعد تخرجه، لكنه ضاق بقيود الوظيفة وآثر الصحافة، عُرف عنه أسلوبه الساخر الرشيق الذي ينتمي إلى السهل الممتنع، كما كان بارعًا في الإنجليزية ونقل عديدًا من أشعارها إلى العربية. من مؤلفاته:
صندوق الدنيا.
حصاد الهشيم.
عود على بدء.
رواية إبراهيم الكاتب، بجزئها الثاني: إبراهيم الثاني.
معلومات عن المُحرر:
عبد الرحمن بن حسن قائد: نال درجة الماجستير في الدراسات الإسلامية، ثم حصل على الدكتوراه، قرأ على طائفة كبيرة من العلماء في مختلف الفنون ولازم بعضهم وحفظ جملة من المتون العلمية، عمل أستاذًا للحديث وعلومه في المركز العلمي لتعليم القرآن والسنة بجدة (تحت إشراف جامعة أم القرى)، كما شارك في مشروع آثار ابن تيمية وابن القيم والشنقيطي والمعلمي الذي أشرف عليه الشيخ العلامة بكر أبو زيد رحمه الله، عمل محققًا ومراجعًا ومصححًا من سنة 1423م حتى اليوم.
من تحقيقاته:
مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة لابن القيّم.
الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب لابن القيّم.