المواجهة تتجدد.. من نار القاهرة إلى نار أسوان
المواجهة تتجدد.. من نار القاهرة إلى نار أسوان
ساقته المقادير هذه المرة إلى ديوان الأوقاف، كأن قدره أن يوجد حيث يكون الإعصار، كانت الجبهة القومية حائرة بين الصمت عن فساد الخديوي، أو معارضة هذا العبث، وتأييد مسعى الإنجليز لنزع يد الخديوي من هذا الديوان، لكن جاء أمر الأستانة لينهي هذا العراك، فتحولت الأوقاف إلى وزارة، لكن ظلت شيعة القصر على حالها داخل المؤسسة الجديدة، وكانت الأمور تجري بالعقاد بعيدًا عن وظيفة سكرتارية الوزارة التي ألفها.
لم تكن أمور جريدة “المؤيد” بعد وفاة مؤسسها الشيخ “علي حسن” على ما يرام، وظهر للعامة بعض التنافس بين الإنجليز والقصر على إرث الصحيفة العريقة، تجلت هذه المنافسة تمامًا حينما تخلى “أحمد حافظ عوض بك” عن منصبه داخل القصر ليتولى رئاسة تحرير المجلة، وكان العقاد ضمن من دُعوا إليها لإعادة إحياء صفحة الأدب، لم يخطر له في بداية الأمر سوى أنه والأقدار قد تسالما أخيرًا، لكن بعد انجلاء الظلام، أدرك أن تلك الدعوة لم تكن سوى تصفية لديوان الأوقاف، وأنه قد وقع في شراك القصر مرة أخرى.
لم تكن هذه الاستقالة ثقيلة على نفس العقاد كسابقاتها، فقد كان يحن إلى عزلة أسوان، ويرجو الكتابة في غير الصحافة، فلم يُضيع وقتًا كثيرًا في القاهرة، وعجل إلى مدينة الشتاء، كأن قريحته ومشاعره لا تجود عليه إلا بقرب النهر، وأعطته أسوان ما أراد وأكثر هذه المرة، فشرع في تأليف كتابه “ساعات بين الكتب” ليضم فيه خلاصة مطالعته وملاحظاته حول ما قرأ، كما بدأ في الإعداد لديوانه الأول، وأعد كتابين آخرين لنشرهما حين يعود إلى القاهرة.
ولم يكن العقاد قد شُفي من داء الكلام، وكانت أسوان، كسائر الديار المصرية، ترزح تحت وطأتين، طغيان الحكام، وأضرار الحرب العالمية الأولى، وجد العقاد نفسه بين أهله وعشيرته، محكومين بطبقة لا تختلف عن التي نبذها في القاهرة، فآثر أن يُبادر هذه الجماعة، وانتشرت مقالته الفكاهية عن هؤلاء البكوات، حتى تداولها شيبة المدينة وشبابها، ووصلت إلى العقاد أنباء ما يُحاك له، ردًّا على استخفافه وإحراجه لعلية القوم، إذًا لا مفر من قهر أسوان سوى القاهرة.
الفكرة من كتاب حياة قلم
في أسوان، يرى خلفه جبال النوبة شامخة، ترفع أعلام الماضي وترفض أن تتقاصر للبساط المحيط بها، وأمامه الوادي يشق جبهة الهضبة الحجرية، وينحر الصحراء لينعم على هذا القطر بالزرع والرفاه، فماذا يبقى لمصر إذا ذهبت أسوان وذهب نيلها؟
كان عصر العقاد مليئًا بالأفذاذ في كل فن، وليس من السهل على فتًى قادم من أقصى الصعيد أن يتميز قلمه بين هؤلاء الكبار، لكنه ومنذ البداية لم يكن يعبأ بالأنداد، ويعطيه قلمه وحدسه الثقة الكبيرة بما يُقدم وما يفعل، حتى انتزع لنفسه منزلة بين الأعلام. في هذه السيرة الذاتية، يهتم العقاد بأن يعرض لنا سيرته الصحفية والأدبية، منذ إنشائه مجلته الخاصة في الابتدائية، حتى توليه قلم الأدب في جريدة “المؤيد”، يقص علينا جولاته في عديد الوظائف التي شغلها، وصولاته مع عديد الشخصيات التي عاصرها، وفي النهاية نتعرف شيئًا من فلسفته وآرائه في قضايا السياسة والأدب.
مؤلف كتاب حياة قلم
عباس محمود العقاد: وُلد في أسوان عام 1889م، ونشأ في أسرة فقيرة، فلم يتعد في تعليمه المرحلة الابتدائية، ولكنه اعتمد على ذكائه في تكوين ثقافة موسوعية، وتعلم اللغة الإنجليزية في طفولته من مخالطته الأجانب الزائرين لأسوان.
اشتغل بالسياسة في فترة من حياته وانتُخِبَ نائبًا للبرلمان، وسُجِنَ تسعة أشهر بتهمة “العيب في الذات الملكية”، عُرفت عنه معاركه الأدبية مع كبار مفكري عصره، كالرافعي وطه حسين، وأسس مع عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري “مدرسة الديوان” الشعرية.
وللعقاد عديد من المؤلفات والدواوين الشعرية نذكر أهمها:
سلسلة العبقريات.
كتاب “ساعات بين الكتب”.
كتاب “التفكير فريضة إسلامية”.
ديوان “أعاصير مغرب”.
ديوان “عابر سبيل”.