صناعة بلا وجهة.. في قلب الإعصار
صناعة بلا وجهة.. في قلب الإعصار
كانت صحف ذلك الوقت لا تعرف لها موارد غير بعض الاشتراكات المتفرقة التي لا تُغني صاحب الجريدة ولا تسمن محرريها، لكن الإعانات السرية هي التي كانت تُقيم أود هذه الصناعة، فيتنافس القصر الملكي مع السفارات الأجنبية على دعم هذه الصحيفة أو تلك، وبكشف حساب بسيط يظهر للجميع أن مصروفات هذه الصحف تخطت إيراداتها، ولولا هذه الإعانات ما استمرت صحيفة منها شهرًا.
ولم يمر وقت طويل حتى برز اسم العقاد كقلم مُشاغب، وفتًى مثير للمتاعب، فقد كانت الأحاديث مع الوزراء والقادة العسكريين بابًا ما زال غير مطروق من صحفيي ذلك العصر، وبرع العقاد في ترتيب هذه اللقاءات، ولم يكن يمر أي منها بسلام، فإما أن تصب عليه غضب القصر، أو تحول إليه عيون الاحتلال.
وبدا أن صاحب “الدستور” يُحدث نفسه مع كل عدد من الجريدة، فانتظر العقاد إعلان خبر حجب الصحيفة مع كل عدد، وأطبقت على الصحافة المصرية غيمة لم تنجلِ إلا وقد فقدت معها هذه الصناعة الشيء الكثير، وتبعت “اللواء” خطى “الدستور” ووقف العقاد ينظر، لا يحول عينيه من هذه الجريدة حتى يجد أختها قد تبعتها، ماذا يفعل؟ هل يبيع قلمه لتلك الدكاكين؟ يا لشماتة الشامتين! هل في سبيل هذه البضاعة ترك وظيفته في الحكومة؟ إذًا فلا مُقام في القاهرة بعد الآن، سيبيع كتبه، مخزون الأيام السعيدة، ويهرع إلى أسوان حتى يبين شيء ما خلف هذا الظلام.
لم تستقبله بلدته سوى بجولة أخرى بين الأمل واليأس، فبدلًا من أن يُسليه اجتماع الأهل والأحباب، صاحبته أسئلته وحيرته، حتى توهم أن الموت آخذه لا شك، لكن أيطرح المجد عن كاهله بيديه؟ لقد هرب من يأس القاهرة إلى ركود أسوان، وأدرك أن دواء علته ليس في الهرب إلى أقصى الصعيد.
الفكرة من كتاب حياة قلم
في أسوان، يرى خلفه جبال النوبة شامخة، ترفع أعلام الماضي وترفض أن تتقاصر للبساط المحيط بها، وأمامه الوادي يشق جبهة الهضبة الحجرية، وينحر الصحراء لينعم على هذا القطر بالزرع والرفاه، فماذا يبقى لمصر إذا ذهبت أسوان وذهب نيلها؟
كان عصر العقاد مليئًا بالأفذاذ في كل فن، وليس من السهل على فتًى قادم من أقصى الصعيد أن يتميز قلمه بين هؤلاء الكبار، لكنه ومنذ البداية لم يكن يعبأ بالأنداد، ويعطيه قلمه وحدسه الثقة الكبيرة بما يُقدم وما يفعل، حتى انتزع لنفسه منزلة بين الأعلام. في هذه السيرة الذاتية، يهتم العقاد بأن يعرض لنا سيرته الصحفية والأدبية، منذ إنشائه مجلته الخاصة في الابتدائية، حتى توليه قلم الأدب في جريدة “المؤيد”، يقص علينا جولاته في عديد الوظائف التي شغلها، وصولاته مع عديد الشخصيات التي عاصرها، وفي النهاية نتعرف شيئًا من فلسفته وآرائه في قضايا السياسة والأدب.
مؤلف كتاب حياة قلم
عباس محمود العقاد: وُلد في أسوان عام 1889م، ونشأ في أسرة فقيرة، فلم يتعد في تعليمه المرحلة الابتدائية، ولكنه اعتمد على ذكائه في تكوين ثقافة موسوعية، وتعلم اللغة الإنجليزية في طفولته من مخالطته الأجانب الزائرين لأسوان.
اشتغل بالسياسة في فترة من حياته وانتُخِبَ نائبًا للبرلمان، وسُجِنَ تسعة أشهر بتهمة “العيب في الذات الملكية”، عُرفت عنه معاركه الأدبية مع كبار مفكري عصره، كالرافعي وطه حسين، وأسس مع عبد القادر المازني وعبد الرحمن شكري “مدرسة الديوان” الشعرية.
وللعقاد عديد من المؤلفات والدواوين الشعرية نذكر أهمها:
سلسلة العبقريات.
كتاب “ساعات بين الكتب”.
كتاب “التفكير فريضة إسلامية”.
ديوان “أعاصير مغرب”.
ديوان “عابر سبيل”.