مواسم الونس والهجرة
مواسم الونس والهجرة
إن السبب الأساسي الذي جعل مواقع التواصل الاجتماعي منتشرة بهذا الشكل، هو حاجتنا إلى أن نبوح ونتكلم مع الآخرين ونعبر عن آرائنا وتجاربنا الشخصية، فنحو 40% مما نكتبه أو ننشره من صور وفيديوهات يدور حول هذه الأمور.
كما أننا نشعر بالراحة والأمان نتيجة المشاركة والبوح مع الآخرين، ولكن سَرعان ما تتحول هذه التجربة “المريحة” إلى مصدر للإزعاج نتيجة ظاهرة تعرف “بانهيار السياق”، إذ يخرج ما ننشره من نطاق الأصدقاء الذين لديهم معرفة معقولة بأفكارنا وطريقتنا في الجد والهزل، ليصل إلى آخرين لا علم لهم بنا ويفسرون الأمور حسب خبرتهم، وغالبًا ما يكون التفسير سلبيًّا.
ونتيجة هذا الونس الذي نسعى إليه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، نصبح أكثر عرضة للتأثُّر بمشاعر الآخرين في ما يُعرف بـ”عدوى المشاعر”، فهذا الزحام العقلي والنفسي يُصيب بتخمة عقلية ونفسية واجتماعية لا تتوقف، ولا مبالاة وعدم اندهاش لشيء.
وجميعنا نعرف أنه كلما طال الوقت الذي نقضيه في التصفح زاد شعورنا بعدم الرضا عن أنفسنا، فنحن نقارن أنفسنا بالآخرين وإن لم نرغب في هذا الأمر، ولكن المقارنة في مواقع التواصل مختلفة، فنحن نقارن أنفسنا التي نعرف عيوبها جيدًا بمجموع أفضل ما رأيناه على هذه المواقع.
ونتيجة هذه المقارنة حدثت واقعة غريبة في قرية “بُرج مِغِيزِل” بمحافظة كَفْر الشِّيخ المصرية، إذ سُجن ما يزيد على أربعة آلاف من أهل المحافظة في السجون الأوربية بتهمة تهريب مهاجرين، وقد ظهر في ما بعد أن هذا حدث نتيجة تعطل مهنة الصيد هناك فلجأ بعض الشباب إلى الهجرة والعمل في البلاد الأوربية، وكانوا ينشرون صورًا لهم على مواقع التواصل الاجتماعي تنم عن الرفاهية والنجاح، مما جعل الهجرةَ حلمَ كل شاب هناك، ولكن ما لم يره هؤلاء الشباب هو القوارب الغارقة والمصريين الذين يعملون في تجارة المخدرات أو في المطاعم مقابل 10 يوروهات أجرًا عن ثماني ساعات من العمل!
وقد يرى بعض الناس أن هذه مبالغة وأن فيسبوك ليس المشكلة الحقيقة، لكن الإحصاءات تدل على أن عدد المراهقين الذين يحلمون بالهجرة زاد خلال الفترة من 2011م إلى 2015م، وهذه الزيادة صاحبت زيادة عدد مستخدمي فيسبوك في مصر، إذ ارتفع عدد المستخدمين من نحو 5 ملايين إلى 25 مليونًا، وهذا يدل على ارتباط قوي بين الظاهرتين.
الفكرة من كتاب برج مغيزل: مواقع التواصل الاجتماعي ومواسم الونس والإدمان والهجرة
إن رغبة الإنسان في أن يتواصل مع الآخرين وأن يتفاعلوا معه قوية وقديمة، وقد بدأت هذه الرغبة منذ أكثر من 400 ألف عام حينما كان الإنسان يجتمع مع أهله حول نار الموقد يسرد القصص والحكايات، وتشكلت من هنا رغبته في البوح والوَنَس، وقد علمت الشركات التي أنشأت مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة أن لهذه الرغبة أثر الإدمان فاستغلتها، ومن وقتها تحول التاريخ، فصارت السلطة ولأول مرة بيد مجموعة قليلة من الأفراد، وصار العالم في حالة من السيولة المُصاحبة لعالم قديم يريد أن يبقى وعالم جديد يُولد ليدافع عن حقوقه.
مؤلف كتاب برج مغيزل: مواقع التواصل الاجتماعي ومواسم الونس والإدمان والهجرة
خالد الغمري: أستاذ مساعد اللُّغويات الحاسوبية بكلية الألسن بجامعة عين شمس، حاصل على الدكتوراه من جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية، شارك في تأسيس “مرصد المحتوى العربي على شبكة الإنترنت” التابع لـ”مؤسسة الفِكر العربي”، و”منتدى وسط غرب أمريكا للغويات الحاسوبية”.
خالد الغمري: أستاذ مساعد اللُّغويات الحاسوبية بكلية الألسن بجامعة عين شمس، حاصل على الدكتوراه من جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية، شارك في تأسيس “مرصد المحتوى العربي على شبكة الإنترنت” التابع لـ”مؤسسة الفِكر العربي”، و”منتدى وسط غرب أمريكا للغويات الحاسوبية”.