الأيديولوجيات الهمجية والعلوم الإنسانية
الأيديولوجيات الهمجية والعلوم الإنسانية
إن الأيديولوجيات الهمجية عبارة عن أنماط فكرية لا تتوانى عن تقديم نفسها بوصفها العلوم الوحيدة الممكنة، وتنقسم تلك الأيديولوجيات إلى نوعين:
النوع الأول “العلوم التي تدرس الطبيعة” ومنهجها هو اختزال الطبيعة وتحديد البشر والزمان، ومن ثمَّ يعتقد البشر أنهم مفعولات الطبيعة، هذه الطبيعة المختزلة إلى أطراف مادية قائمة على الأمثلة في الفيزياء الرياضية.
النوع الثاني “العلوم التي تتحدث عن الإنسان”، وهي العلوم التي تهتم بالتفكير في الإنسان نفسه والظواهر المقترنة به، ومن ثمَّ تُخصص الظواهر المقترنة بالإنسان وتشعبها للدراسة الموضوعاتية الخاصة بها، فتنتج عن ذلك الموضوعات التاريخية والاقتصادية والحقوقية وغيرها من الموضوعات، وتتميَّز هذه الموضوعات التي تتحدث عن الإنسان وعن الظواهر الطبيعية في أنها عصية على التعريف والتطوّر بمعزل عن الإنسانية وسلوكاتها الماهوية، إلا أن ظهور العلوم الإنسانية خلال القرن العشرين وتطورها العجيب قائم على الحصول على معرفة علمية موضوعية عن الإنسان، وهذا المسعى أدى إلى تعطيل الذاتية التي تُحدد ماهية الإنسان وتهميشها، ومن ثمَّ كان أثر التوجه العلمي للعلوم الإنسانية هو الحكم عليها بزوال موضوعها.
إن هذا الزوال لموضوع العلوم الإنسانية قد أدى إلى قيامها باستيراد الطرائق التي تقوم عليها علوم الطبيعة إليها، وكان هذا نتيجة طبيعية لإهمالها العلوم الذاتية التي تسكن الإنسان وتحدد إنسانيته، فأدى ذلك بالتبعية إلى أن الطرائق المستوردة صارت هي التي تحدد الموضوعات الإنسانية، وتطبيقًا على ذلك ما يتعلق بموضوع “الرأي العام”، نشأ الرأي العام عن طريق تلفيق استطلاعات للرأي تقوم على تطبيق شبكة رياضية وإحصائية على ما لا يمكن اكتشافه إلا فيها، فمثلًا عندما تتم دراسة ظاهرة مثل “الانتحار” فمن الممكن إحصاؤها عن طريق تحديد عدد المنتحرين، ومن ثمَّ يصبح الرقم هو صاحب القيمة والمعنى، وبناءً على هذا الرقم يتم تقسيم المجتمع إلى فئات عمرية واجتماعية، وفي كل مرة يتم إجراء إحصاء تبعًا لهذه المرجعيات، لنكتشف أننا أمام قوانين جامدة وصارمة نحصل من خلالها على نظرية سوسيولوجية عن الانتحار،
وبالمثل ينطبق الأمر على دراسة موضوعات الجنس والجريمة، إلا أن قيمة النتائج التي تخرج بها هذه الدراسات الإحصائية هي في الحقيقة بلا إضافة، إذ تقتصر على تكرار هذه الظواهر وإدراجها في لائحتها المثالية، فيتبين لنا أن هذه العلوم هي عملية بناء وتفكيك، لأن هذا البناء لا ينطلق من دراسة الظاهرة الأصلية، بل من تمثيل لا فعلي للحياة ومن ثمَّ لا علاقة له بالثقافة، لأنها تقتصر المعرفة بها على إحصاء خارجي.
الفكرة من كتاب الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة
يُبين المؤلف في هذا الكتاب أنه لأول مرة في التاريخ يحدث انفصال بين العلم والثقافة إلى حد الصراع في ما بينهما في معركة وجودية حتى الموت، فنحن نشهد في عصرنا الحالي انفجارًا علميًّا يقابله انهيار وتدمير للإنسان، كما نشهد تطورًا علميًّا يسير جنبًا إلى جنب مع تداعي الثقافة وأفولها، كأن انتصار العلم هو اندثار للثقافة. ومن ثمَّ يُنادي المؤلف في طول الكتاب وعرضه بفصل العِلم عن الأيديولوجيا المرافقة والمفسرة له، وهي الأيديولوجيا المادية الهمجية التي تختزل الكون في مجموعة موضوعية من الظواهر المادية، وتقتصر في تفسير الحياة على الطرائق الرياضية الفيزيائية.
مؤلف كتاب الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة
ميشيل هنري : هو فيلسوف وروائي فرنسي، كما أنه كاتب ومفكر، وأحد روّاد علم الظواهر (الفينومينولوجيا)، وعلوم الاجتماع والسياسة والفن، وكان يعمل أستاذًا في جامعة (بول فاليري مونبلييه) في فرنسا، كما عمل بالتدريس في جامعات فرنسية وأجنبية عديدة، من مؤلفاته:
I Am the Truth: Toward a Philosophy of Christianity.
Seeing the Invisible: On Kandinsky.
Words of Christ.
Material Phenomenology (Perspectives in Continental Philosophy).
معلومات عن المترجم:
جلال بدلة: مترجم وأكاديمي سوري من مواليد دمشق عام 1977، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة بوردو الثالثة، من ترجماته:
فلسفة العنف.
الهمجية.
الإسلام والجمهورية والعالم.
الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني.