تنكُّر العِلم للحياة
تنكُّر العِلم للحياة
لقد أصبح العلم في يومنا هو العلم الرياضي للطبيعة الذي يستبعد الحساسية، وهذا الاستبعاد للحساسية يعني استبعاد الحياة، فمثلًا إذا كان العلم يستطيع أن يقيس المساحة التي يشغلها لون من الألوان ويقدر كثافة هذا اللون بناءً على النظريات الفيزيائية، فإنه يغفل عن كينونة الحساسية في اللون، ومن ثمَّ فإن العلم يختزل كينونة الإحساس في مجرد الحركات المادية التي ترتبط معرفتها بعلم الفيزياء، هذا رغم أنه لا توجد أيّة علاقة بين الحركات المادية وبين الكينونة الفعلية للإحساس، لأن الإحساس كما الحياة يحس بذاته ويخبر بها، وهو ما تفتقر إليه أساسًا الحركات المادية والجسيمات والجزيئات، لذا فإن ما يستبعده العلم في الأصل هو الحياة، فهو يُقصي الحياة ويتنكَّر لها بناءً على اختزالها إلى عالم الموضوعات المثالية والتجريدات الفيزيائية الرياضية، مدعيًا أن الخواص المحسوسة في هذا العالم هي خواص العلم وتنتمي إليه وحده، ومن ثمَّ صار العلم يتصرَّف كما لو كان وحيدًا يُملي قانونه على العالم مستبعدًا أي معرفة أخرى.
إن هذه الحالة من الإنكار والإقصاء للحياة هي التي تُميِّز العالم في عصرنا الحالي، وهذا ما يجعلنا نئن ونرزح تحت وطأة الحداثة بعد أن أصبحت الحياة لا تُملي قوانينها الخاصة بها عن نفسها، وبناءً على ذلك تحوَّل العِلم الذي يرى نفسه وحيدًا إلى “التقنية” المستمدة من العِلم ومن معرفته النظرية، بعد إقصاء أي شكل من أشكال المعرفة الأخرى وأي إحالة إلى عالم الحياة، وفي إطار ذلك كثرت التفسيرات الخاصة بالتقنية، ففريق يرى أن التقنية الحديثة ما هي إلا تأكيد على سيطرة الإنسان على عالم الأشياء، بينما يرى فريق آخر أن التقنية وسيلة وغاية مرتبطة بتحقيق مصالح البشرية، وفي الحقيقة، إن التقنية لا تختلف عن العلم، فهي لا تعرف شيئًا عن المصالح البشرية، لأنها لا تخدم أي غاية ذات طبيعة مختلفة عن طبيعتها المادية، ومن ثمَّ فإن وسائلها هي نفسها الغاية!
لقد أدى تغريد العِلم وحيدًا إلى حدوث انقلاب وجودي، هذا الانقلاب هو ما دشَّن العصر الحديث الذي نحياه، فنحن نرى كيف تبدلت مهمة إنتاج السلع الاستهلاكية التي تُميز كل مجتمع من “القيم الاستعمالية”، وهي إنتاج المنتجات التي يحتاج إليها المجتمع بغض النظر عن الربح، إلى الحصول على المال ومراكمته، فاستبدل بإنتاج السلع المفيدة للحياة إنتاج سلع اقتصادية هدفها مراكمة المال، فاختصر الإنتاج في المال وليس في القيم الاستعمالية، ومن ثمَّ فإن واقع الحداثة هو الانتقال من الإنساني إلى اللا إنساني، وهذه هي أشد أنواع الهمجية في زماننا.
الفكرة من كتاب الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة
يُبين المؤلف في هذا الكتاب أنه لأول مرة في التاريخ يحدث انفصال بين العلم والثقافة إلى حد الصراع في ما بينهما في معركة وجودية حتى الموت، فنحن نشهد في عصرنا الحالي انفجارًا علميًّا يقابله انهيار وتدمير للإنسان، كما نشهد تطورًا علميًّا يسير جنبًا إلى جنب مع تداعي الثقافة وأفولها، كأن انتصار العلم هو اندثار للثقافة. ومن ثمَّ يُنادي المؤلف في طول الكتاب وعرضه بفصل العِلم عن الأيديولوجيا المرافقة والمفسرة له، وهي الأيديولوجيا المادية الهمجية التي تختزل الكون في مجموعة موضوعية من الظواهر المادية، وتقتصر في تفسير الحياة على الطرائق الرياضية الفيزيائية.
مؤلف كتاب الهمجية.. زمن علم بلا ثقافة
ميشيل هنري : هو فيلسوف وروائي فرنسي، كما أنه كاتب ومفكر، وأحد روّاد علم الظواهر (الفينومينولوجيا)، وعلوم الاجتماع والسياسة والفن، وكان يعمل أستاذًا في جامعة (بول فاليري مونبلييه) في فرنسا، كما عمل بالتدريس في جامعات فرنسية وأجنبية عديدة، من مؤلفاته:
I Am the Truth: Toward a Philosophy of Christianity.
Seeing the Invisible: On Kandinsky.
Words of Christ.
Material Phenomenology (Perspectives in Continental Philosophy).
معلومات عن المترجم:
جلال بدلة: مترجم وأكاديمي سوري من مواليد دمشق عام 1977، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة بوردو الثالثة، من ترجماته:
فلسفة العنف.
الهمجية.
الإسلام والجمهورية والعالم.
الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني.