بَينَ المُجرّدات، والسِّياق
بَينَ المُجرّدات، والسِّياق
يُعدّ الاختلاف الثقافي من أكبر العوائق التي تواجه المترجم، هذه العقبة التي لا تُحلّ بالمعاجِم بشكلٍ كُليّ ومُتقن، لذا دائمًا ما يحتاج المُترجم إلى مهارة التقريب في المعنى حسب السياق، وأغلب المترجمين المبتدئين على وجه الخصوص يقعون أسرى للدلالات الأولى للكلمات المترجمة من القاموس الذي تعلّموا منه في مراحل التعلم الأولى، وتتنوع المعاني للفظ ذاته حسب السياق كما يرد في أغلب الكلمات، على سبيل المثال كلمة Pleasure تعني السعادة والحبور، لكن تقتضي بعض السياقات اللغوية أن تكون بمعنى المتعة أو اللّذة، وبالمِثل في كلمتي delight و joy
فبالرغم من اختلاف اللفظين قد يتفقا في المعنى المترجم أو يختلفا، ويتوقف ذلك كلّه على سياق الجملة المراد ترجمتها، وعلى الجانب الآخر توجد بعض الألفاظ، نتيجة للاختلاف الثقافي بين العرب والعجم، لا يوجد لها مقابل لغويّ في اللغة العربية ومن الصعب حصرها في معنى محدد، وذلك مثل فنّ الكوميديا الذي ترجمه العرب بـ”الهجاء”، والتراجيديا بـ”الرثاء”، واشتَقّوا المَلهاة من اللهو، والمأساة من الأسى، كلها معانٍ قد لا تكون بالقدر نفسه من المعنى الاشتقاقيّ، ولكنّها تتقارب في المعنى الاصطلاحي،
وتكمُن المُشكلة في عدم قدرة المترجم على شرح المعنى المُترجم في فروقِهِ الدَّقيقة بين كل لفظ وآخر، بل يحتاج دائمًا إلى كلمة دالّة أو كلمتين ليتم نقل المعنى كله أو معظمه على أقلّ تقدير، وتزخر اللغة العربية بالألفاظ المُوحّدة لمعانٍ مختلفة اختلافًا دقيقًا لا يُميّزه إلا الضليع فيها، فعلى سبيل المثال كلمة الرحمة في القرآن الكريم لها معانٍ كثيرة، فالرحمة في الآيةِ الكريمة في سورة التوبة ﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ﴾ تأتي بمعنى الامتناع عن العقاب، ويختلف عن معناها في سورة هود ﴿نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾،
الذي هو بمعنى الرقّة المُجرّدة، ويختلف كذلك عن معنى الرحمة المذكور في سورة الإسراء ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾، بمعنى العطف، وإنّ هذه الاختلافات الدقيقة كلها خاضعة للسياق لا للكلمة المفردة، وعلى ذلك في اللغتين فقِس.
الفكرة من كتاب فنّ الترجمة
هذا الكِتاب هو عرضٌ لبعض القضايا المُتعلّقة بفنّ الترجمة، والمذاهب المُتّبعة في أبوابها، وهو موجهٌ بشكلٍ رئيس للمُبتدئين في هذا المجال، وهُم المُحيطون إحاطة مقبولة باللغتين العربيّة والإنجليزيّة، لكن تنقصهم الخِبرة الكافية للجمع بين نقل المعنى الذي أراده الكاتب بدِّقة من غير إنقاص أو تركيك، وقد ركّز الكاتب على المشكلات الشائعة التي يقع فيها أغلب المُترجمين بناءً على خبرته الطويلة في هذا المجال، وبسبب قناعة الكاتب أن التطبيق أجدى من النظريات المُجرّدة، فقد تعامل مع الترجمة على أنها في أصلها فنٌّ تطبيقيّ،
يحتاجُ إلى المِران والمُمارسة حتى يصل المُترجم إلى المستوى المنشود الذي يليق بهذا الفنّ، ولا يُوجد طريق مختصرٌ لحصولِ ذلك، والتطوّر الحاصل في الحياة الثقافيّة يؤثّر بدوره في اللغة وتركيبها مما يؤثر في الترجمة بالتبعيّة، إذ ليس على الترجمة سيّد، والمترجم غارق في الكثير من المُشكلات التي يواجهها في عمليّة الترجمة، لذا وُجِّه هذا الكتاب حتى يكون أول الخيط في سبيل توجيه المُترجم إلى الحلول العمليّة.
مؤلف كتاب فنّ الترجمة
محمد العناني: كاتب مسرحي وأديب وناقد ومُترجم مصريّ، وُلِد عام 1939م، بمدينة رشيد محافظة البحيرة، حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة الإنجليزيّة وآدابها من جامعة القاهرة عام 1959م، التي عَمِل فيما بعد مُحاضرًا بها بعد حصوله على شهادة الدكتوراه، كما حصل على شهادة الماجستير من جامعة لندن عام 1970م، ثم حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ريدنج عام 1975م. لُّقِّبَ بعميد المُترجمين، ورأس قسم اللغة الإنجليزيّة بجامعة القاهرة لستّة أعوام، لهُ العديد من الكتب المُترجمة والمؤلفات الإبداعية، والنقديّة منها: الترجمة الأدبيّة بين النقد والتحليل، والترجمة الأسلوبيّة.