العلمانية والتاريخ الاجتماعي
العلمانية والتاريخ الاجتماعي
تُعرف العلمانية بأنها طريقة تفكير في العالم ونظام تفسير للحياة، لا تقوم على أي معتقدات إلهية أو فوق طبيعية، ويبدأ التاريخ الحقيقي للعلمانية بنهاية العصور الوسطى، وظهور النزعة الإنسانوية التي تسعى للمعرفة الإنسانية من أجل الإنسان ومصلحته، وهجر ما هو إلهي، ما جعلها تشكِّل المنافس الأول للمسيحية، ومع ذلك لم تهيمن العلمانية في زمن الإصلاح الديني، بل كل ما في الأمر أن اللاهوت المسيحي لم يعد يهيمن على العلوم الطبيعية والتقنية، ومن ثمَّ لم يشكل العلم تهديدًا للمسيحية في بداية الأمر، فمعظم العلماء الأوائل الكبار كديكارت ونيوتن وغيرهما كانوا متدينين،
وبحلول القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هيمنت العلوم الجديدة مثل البيولوجيا والجيولوجيا والفلك وغيرها على المجال العام، ما زاد من تهميش المسيحية وتعرضها للهجوم من مختلف النواحي، فأصبح المجتمع الغربي يرى أن اللاهوت المسيحي لم يعد مصدرًا للحقيقة في المجال العام، وأصبح الناس لا يبالون بالتكفير عن الذنب ولا التفكير في الآخرة، بل أصبح جُل اهتمامهم بالدنيا والعلوم الإنسانية والطبيعية، ومع ذلك ورغم عدم هيمنة الدين على المجتمع الغربي، فإن المسيحية تأقلمت بشكل جعلها تبقى ذات شأن وإن لم تكن الخيار الوحيد.
وبناءً على ذلك، فإن أكثر ما يُقلق العلمانيين هو عودة الدين إلى المجال السياسي من جديد، ومصدر قلقهم هو الولايات المتحدة الأمريكية، كون المسيحية تمثل فيها قوة هائلة، ومن ثمَّ فإن الحكاية التقليدية المتعلقة بظهور العلمانية هي محل شك، لأن المسيحية أو الدين بشكل عام لم يختف في الغرب، كما أن هناك كثيرًا من العلماء والأذكياء ما زالوا يؤمنون بالله رغم تفوق العلوم الإنسانية والطبيعية.
ولكي نفهم الهوية الدينية في المجتمع الغربي وطبيعة العلمانية الغربية، لا بد أن نعلم أن الذي حدث هو إحلال العِلم محل الدين في ما يتعلق بالدور التقني فقط، لأن الدين في العصور الوسطى كان يؤدي دورًا تقنيًّا إلى جانب أدواره الأخرى، ومثال على الإحلال التقني أن العِلم حل مكان الدين في ميدان الرعاية الصحية، ففي العصور الوسطى كان الناس يلجؤون إلى الكنيسة للتداوي والحصول على العلاج، بينما في العصر الحديث يلجأ الناس إلى الأطباء والمستشفيات للحصول على العلاج الطبي، كونه أفضل أنواع العلاج، إلا أن تفوق العِلم على الدين من الناحية الوظيفية من حيث تفسير الطبيعة والحياة الإنسانية لم يمكنه من تطوير نهج أخلاقي، لذلك استطاع الدين أن يحتفظ بدوره في ميدان الأخلاق.
الفكرة من كتاب تاريخ موجز للعلمانية
يحاول الكاتب إثبات أن العلمانية لا تُمثل نهاية الدين وخصوصًا الدين المسيحي في الغرب، كما أنها لا تُعبِّر عن إلحاد الغرب، لأن العلمانية والأخلاق الليبرالية تعتمدان بشكل واضح على الإرث المسيحي، ومن ثمَّ فإنه يرى أن العلمانية هي صورة متطورة وحديثة من المسيحية، وأنها تعبر عن الأخلاق المسيحية منفصلة عن عقيدتها.
مؤلف كتاب تاريخ موجز للعلمانية
غرايم سميث : هو أستاذ لاهوت، وباحث في القضايا المتعلقة بدور الدين في المجتمع، كما أنه أحد المؤسسين لمجلة اللاهوت السياسي، ويعمل محررًا فخريًّا لها، من مؤلفاته:
Oxford 1937: The Universal Christian Council of Life and Work.
معلومات عن المترجم:
مصطفى منادي إدريسي: هو باحث مغربي، مهتم بقضايا العلمانية وتاريخها، حاصل على إجازة في الفلسفة عام 2006، كما حصل على شهادة من المدرسة العليا للأساتذة عام 2007، وترجم عدَّة مقالات ودراسات خاصة بالعلمانية والسياسة.