النزعة الصحية والعمل
النزعة الصحية والعمل
كانت حمى النزعة الصحية والنظافة والعناية بالجسد حتى منتصف القرن العشرين مرتبطة بالواجبات تجاه الذات، وكان يُنظر إلى مدمن الكحول على أنه شخص بهيمي يُخرِّب الأسر والنسل والأوطان، فهو يُسيء إلى نفسه وإلى المجتمع معًا، فكان يُعد خطرًا على المجتمع ولا يستحق سوى النبذ والاحتقار الاجتماعي، أما الآن فُصلت حمى النزعة الصحية عن الواجبات تجاه الذات، وأصبح تجميل الجسد تسيطر عليه شعيرة الإغراء وحب الذات والرفاهية النرجسية، وقد ترتب على ذلك زيادة العمل اليومي للصيانة الجسدية والمراقبة الذاتية، واستهلاك أوقات ومعلومات وأموال أكثر، ومن ثمَّ حلَّ التقديس الأناني والمقلق للصحة والشباب والتجميل الجسدي محل المعرفة الفخمة للكرامة.
كما كانت الرياضة من واجبات الإنسان تجاه نفسه، إذ تبعده عن النعومة وتحسِّن مؤهلاته الجسدية، ولم تكن منحصرة في الترفيه وحده، ومن ثمَّ كانت الرياضة تقدَّم على أنها تربية أخلاقية وتعلُّم للفضائل، إلا أنه منذ عقود تخلَّصت الرياضة من الفضائل وأصبحت في ركب المنطق ما بعد التخليقي، وهو المنطق النرجسي الاستعراضي، فتحولت الرياضة من كونها منضبطة وذات أخلاق إلى متعة وتحدٍّ، فلم تعد الفضيلة هي التي تعطي الشرعية للرياضة، بل الأحاسيس الجسدية والمتعة والصحة المادية والنفسية، فصارت إحدى شعارات نشوة الجسد في الثقافة الفردانية النرجسية، وأصبحت اللحظة الرياضية تغرق في تقديس الاستعراض وتسليع النجوم الذين يباعون ويشترون بأثمان باهظة!ّ
أما بالنسبة إلى العمل، فلم يحظ شيء بالإطراء مثلما تلقاهُ بوصفه أحد الواجبات تجاه الذات، فقد كان واجبًا اجتماعيًّا إلى جانب كونه واجبًا ذاتيًّا، فقد كان يُنظر إليه على أنه يُنبّل الإنسان بينما الكسل يحط من قيمته ويصيبه بالخزي والعار، أما الآن فلم يعد ينظر إلى العمل على أنه واجب تجاه الذات، أو غاية أخلاقية في ذاته، فلا أحد اليوم يصف الكسالى بأنهم فاشلون، أو تعساء، فسقط العمل بوصفه واجبًا فرديًّا إلزاميًّا لصالح ثقافة متمحورة حول التحفيز وروح المسؤولية؛ أصبحنا في زمن الشغف الواقعي بالربح وديانة الجودة، وبناءً على ذلك يسيطر عليه “فتور الإرادة” والإهمال والتصرفات المؤذية، ومن ثمَّ يحاول الحداثيون إحياء الإرادة ومكافحة التشتت، وإنتاج إنسان ينعم بالحيوية والنشاط، وهي أمور ليست جديدة، فقد كانت تخضع في السابق لمثل ديني أعلى، لكن أصبحت الحاجة إليها ملحة لمواجهة الانحطاط الأخلاقي والبدني ومخاطر الكسل وإدمان الكحول.
الفكرة من كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
يُبين المؤلف أن الأخلاق مرّت بثلاث مراحل، هي: مرحلة الأخلاق التقليدية الدينية، ومرحلة أخلاق الواجب التي فصلت بين الأخلاق والدين، ومرحلة أخلاق ما بعد التخليقية التي نعيشها الآن، وهي أخلاق ليس فيها إثم أو ألم وخالية من الإلزام ولا يترتب عليها أي عقاب، ويوضح أثر أفول الأخلاق الدينية وأخلاق الواجب في الأسرة والجسد والعمل والصحة والبيئة وعالم الأعمال.
مؤلف كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
جيل ليبوفتسكي : هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية النيوليبرالية، وتفكيك بِنى المجتمعات الاستهلاكية، من مؤلفاته:
مملكة الموضة.
المرأة الثالثة.
الترف الخالد.
الشاشة العالمية.
عصر الفراغ.
معلومات عن المترجم:
البشير عصام المراكشي: هو كاتب مقالات فكرية ودراسات شرعية، مدون وباحث ومفكر مغربي، حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، له العديد من المحاضرات والدروس العلمية، من مؤلفاته:
العلمنة من الداخل.
شرح منظومة الإيمان.
تكوين الملكة اللغوية.