إحلال ثقافة الواجب محل الأخلاق الدينية
إحلال ثقافة الواجب محل الأخلاق الدينية
كانت الأخلاق في الغرب المسيحي مصدرها الإله حتى جاء عصر الأنوار، ومن الإله وحده كانت تأتي الأوامر العُليا، ومن ثمَّ كان المعتقد السائد أن الفضيلة مرتبطة دائمًا بالإيمان بالكتاب المقدس وخشية الإله ولولاهما لوُجد الضلال والرذيلة، وبناءً على ذلك ترسخ في الأذهان أن جوهر الأخلاق في عصور ما قبل الحداثة لاهوتي ديني، ومن ثم كان الإله مركز العقل الغربي، وكانت كل القواعد الأخلاقية مبنية على تعاليم الوحي، ولم يكن يُتصوّر البتّة أن تكون الأخلاق مستقلة عن الدين، لأنها جزء من طقوس عبادة الإنسان للإله.
وبمجيء الحداثة رفض الحداثيون خضوع الأخلاق للدين، فأكدوا على الأخلاق المتحررة من سلطة الكنيسة والمعتقدات الدينية، ووضعوا أخلاقًا تقوم على أساس عقلاني إنساني دون لجوء إلى الوحي الإلهي، فكان فصل الأخلاق عن الدين هو مسار علمنة الأخلاق الذي بدأ في القرن السابع عشر، فأصبحت الأخلاق العلمانية هي المعيار الأخلاقي الأساسي للعصور الحديثة الديمقراطية.
وبناءً على ذلك أصبح الإنسان هو المرجع الأساسي للثقافة الديمقراطية، وصارت الأخلاق معنية بالدفاع عن الحقوق الذاتية والإقرار بها، وفرضت الأخلاق الدنيوية نفسها على الأخلاق الإلهية، وجعل الحداثيون البحث عن النعيم الأرضي مطلبًا وحقًّا شرعيًّا للإنسان في مواجهة الرب، ونتيجة لذلك خُفضت متطلبات الإلزام الأخلاقي، وأعاد الفكر الاقتصادي الليبرالي الاعتبار للشهوات الأنانية والرذائل الخاصة على أنها أدوات للازدهار العام، فأعيدت الحقوق الفردية إلى الواجهة، ومع ذلك وحتى النصف الأول من القرن العشرين وقعت موازنة بين حقوق الفرد والمثلنة الاستثنائية للـ”ما ينبغي”، فدعوا إلى نكران الذات إلى جانب الامتثال اللا مشروط للواجب الأخلاقي الإنساني، وبذلك حل محل الواجب الديني القديم، دينٌ مغالٍ حديث هو دين الـ”يجب أن تفعل كذا”.
نصَّب الحداثيون الواجب الأخلاقي على أنه نظام قيمي أعلى من الدين نفسه، فأصبح متحكمًا في مظاهر الدين الأخرى، ومن ثمَّ قُدمت الواجبات تجاه الناس على الواجبات تجاه الإله، وصارت القيمة الحقيقية في الخضوع لقانون العقل الأخلاقي بعد أن كانت تتمثل في الصيام والكفّارات والصلوات، ومن ثمَّ تفوقت ثقافة الواجب في الحياة الجنسية، والأسرة، وعلاقة الآباء بالأبناء.
الفكرة من كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
يُبين المؤلف أن الأخلاق مرّت بثلاث مراحل، هي: مرحلة الأخلاق التقليدية الدينية، ومرحلة أخلاق الواجب التي فصلت بين الأخلاق والدين، ومرحلة أخلاق ما بعد التخليقية التي نعيشها الآن، وهي أخلاق ليس فيها إثم أو ألم وخالية من الإلزام ولا يترتب عليها أي عقاب، ويوضح أثر أفول الأخلاق الدينية وأخلاق الواجب في الأسرة والجسد والعمل والصحة والبيئة وعالم الأعمال.
مؤلف كتاب أفول الواجب.. الأخلاق غير المؤلمة للأزمنة الديمقراطية الجديدة
جيل ليبوفتسكي : هو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي، له عدد من الدراسات والبحوث في نقد الحداثة وما بعد الحداثة والعولمة والرأسمالية النيوليبرالية، وتفكيك بِنى المجتمعات الاستهلاكية، من مؤلفاته:
مملكة الموضة.
المرأة الثالثة.
الترف الخالد.
الشاشة العالمية.
عصر الفراغ.
معلومات عن المترجم:
البشير عصام المراكشي: هو كاتب مقالات فكرية ودراسات شرعية، مدون وباحث ومفكر مغربي، حاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات الإسلامية، له العديد من المحاضرات والدروس العلمية، من مؤلفاته:
العلمنة من الداخل.
شرح منظومة الإيمان.
تكوين الملكة اللغوية.