تدمير الأسرة والأمراض النفسية
تدمير الأسرة والأمراض النفسية
إن التغيرات الحاصلة للأسرة والمرتبطة بالتحول إلى الرأسمالية المؤسسية، قد أزاحت الأسرة الممتدة (الأجداد، الآباء، الأبناء، الأحفاد) وأحلت محلها الأسرة البرجوازية (الأسرة النووية) من أجل مراكمة رأس المال واستبقاء أنفسها للإنتاج، ومن ثمَّ تطورت طقوس اجتماعية جديدة تقوم على ضبط الذات وإرجاء الإشباع والتضحية المادية، فلا سبيل لتلبية الحاجات النفسية والجسدية إلا تحت قواعد تهذيبية صارمة لا تضعف إنتاجية المرء، ومن ثم أصبح الطفل في الأسرة عبارة عن فرصة واعدة للسوق رجاء أن يصبح منتجًا أيضًا! وتراجعت سلطة الآباء بعد ذلك نتيجة غياب الشخصية القوية للأب في الحياة المبكرة للطفل، فاخترقت القيم الجديدة للمجتمع البيروقراطي المستغَل استهلاكيًّا فضاء المنزل عبر المذياع والتلفاز وغيرهما من وسائل الإعلام الجماهيرية، ومن ثمَّ أصبح الطفل أقل تأثرًا بوالديه وأكثر عرضة للتأثر بما يُبث للاستهلاك العام، فنشأ عن ذلك ظاهرة “أفول الأب”!
إن الطفل عندما يُنادي على أبيه ليفعل شيئًا معه، فإن الصيغة المحددة للتفاعل لا تعنيه كثيرًا، فالذي يعنيه ويحتاج إليه هو أن يشعر أنه جزء من عالم الأب، وأن الأب جزء من عالمه أيضًا، إن هذا التفاعل يُشعر الطفل بمعية الأب، بينما إذا رأى الأب في تفاعله مع الطفل أن الأمر لا يُطاق، فإن ذلك سيرتبط مع الطفل بتمثيلات سلبية كالإهمال أو الغضب، ما يدفع الطفل إلى طلب ما يحتاج إليه بشكل من أشكال التظاهر وعدم الجدية، فينشأ عن ذلك شخص لديه قدرة كبيرة على الإدارة العاطفية لنفسه ليكون ناجحًا في النظام، فيصبح مجردًا من العواطف، غارقًا في المهام، عازمًا على كبت الاعتراضات، والثمن الذي يدفعه هو الاعتلال النفسي والجسدي، والإدمان، والعلاقات الهشة، والخواء الذاتي.
هناك مرضان أو اضطرابان نفسيان شائعان في زمن الحداثة، تفرزهما العلاقات الاجتماعية الرأسمالية هما (النرجسية والاكتئاب)، ويعتبران النتيجة الأكثر شيوعًا للتنشئة الاجتماعية للرأسمالية المؤسسية، فالاكتئاب هو صورة فاشلة من النرجسية، إذ نشهد في المكتئبين انهيارًا للصورة الذاتية المتعاظمة التي تحمي النرجسيين من سخطهم على أنفسهم حين لا تُلبّى احتياجاتهم العاطفية الأساسية، ويمكن أن نرى أثر ذلك في السلبية والنوم وفقدان الشهية والأكل المفرط والسوداوية وانعدام الأمل، كما يغلب على النرجسيين والمكتئبين الرضوخ للتنفيس المبتذل عندما تتعرض ذواتهم للتهديد، ومن ثمَّ يميل النرجسيون إلى السلوك السادي تجاه الآخرين، بينما المكتئبون يميلون إلى السلوك المازوخي تجاه أنفسهم، وتُستعمل الأساليب النرجسية والاكتئابية لبيان نمطين يرتبطان بالمؤسسات الثقافية والاجتماعية للتحديث الرأسمالي، ويُشيران إلى الأعماق النفسية التي يمكن أن تخترقها التناقضات الاجتماعية للرأسمالية المؤسسية.
الفكرة من كتاب حياة تالفة … أزمة النفس الحديثة
لقد رُبط التحديث بالمنافع المادية، ورغم ما يمتكله الإنسان من الماديات بأشكالها وألوانها المختلفة، فما زال يعيش حياة تعيسة، إذ تعددت وتنوعت الجرائم والأمراض من جرائم جنائية كالقتل والسرقة إلى الأمراض الاجتماعية كالطلاق والانتحار والاكتئاب والقلق، والأسر المفككة، وشقاء الفقراء، وأفول المدن الصغيرة، فزاد ذلك من أعداد المتقدمين للعلاج النفسي، ومن ثمَّ يستعرض المؤلف تأثير الحداثة في النفس البشرية، مقدمًا تحليلًا قويًّا في ضوء وقع التحديث والتصنيع الرأسمالي على الخبرة الشخصية والعلاقات الاجتماعية والأسرية.
مؤلف كتاب حياة تالفة … أزمة النفس الحديثة
تود سلون : هو أستاذ مشارك في علم النفس بجامعة تولسا في أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو أحد المساهمين والرواد في مجال علم النفس الشخصي، توفى عام 2018، ومن مؤلفاته:
اتخاذ القرار: خداع النفس في خيارات الحياة.
معلومات عن المترجم:
عبد الله بن سعيد الشهري: هو باحث دكتوراه علوم اجتماعية ومؤلف ومترجم، من كتبه:
ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان.