استعمار عالم الحياة
استعمار عالم الحياة
بالاعتماد على ما كتبه “هابرمس” فإن المجتمعات تتألف من مؤسسات وأنشطة تؤدي جملة من الوظائف الجوهرية، تنقسم هذه الوظائف إلى فئتين: الفئة الأولى “النظام” الذي يشير إلى المعارف والأنشطة المتعلقة بإعادة إنتاج المجتمع إنتاجًا ماديًّا، يتمثل ذلك في الممارسات الزراعية، وتقنيات توليد الأطفال، وطرق إنشاء الطرق والهندسة، وأساليب نقل وتبادل السلع، الفئة الثانية “عالم الحياة” الذي يشير إلى الأساس الاجتماعي والثقافي لعملية التواصل، والتفاعل الاجتماعي، ومن ثمَّ فإن عالم الحياة هو مستودع المعرفة الجمعية الثقافية الذي يمكن من خلاله إعادة إنتاج المجتمع ثقافيًّا ومؤسسيًّا ونفسيًّا، كما يضع المساحات اللازمة لتطوير وحفظ ونقل الأفكار والقرارات والمعتقدات والمشاعر والقيم والمعاني، والقواعد الأخلاقية، وبناءً على هذا التقسيم، فإن علاقة النظام بعالم الحياة في زمن الحداثة تعاني صدعًا كنتيجة وأثر غير مباشر لعقلنة الإنتاج التصنيعي.
إن أي مكان يزحف إليه التصنيع نشاهد فيه نمطًا مألوفًا من الإحلال والتبدل يظهر أمامنا، فالكفاءة الإنتاجية ومضاعفة المردودات تؤدي إلى عزل أنشطة العمل عن شؤون المنزل، فالحرفية المنزلية والزراعة المحلية المعتمدة على العمالة الكثيفة تنحسران لصالح الإنتاج الغذائي والسلعي الآلي الخاضع بدوره لمشاريع أكبر، ومن ثمَّ ينتهي الأمر بتوغل القوة الاقتصادية والسياسية في المدن، وارتحال عمال الزراعة بفعل التشغيل الآلي لقوة العمل الزراعية، وانصراف الشباب إلى المدن بحثًا عن العمل، وبناءً على ذلك حين يتقدم التحديث تتقلَّص مساهمة “عالم الحياة” في التطور المجتمعي، ومن ثمَّ فإن أفكار الناس العميقة تتباعد مقارنة بما ينبغي أن تكون عليه الحياة الطيبة نظرًا للقرارات المأخوذة لتحسين الإنتاج الصناعي، ورعاية النمو الاقتصادي، ومن ثم فإن الطور الأول من الحداثة يتأسس بمعمليات العقلنة التي تفصل بين النظام والقيم المغروسة في عالم الحياة.
كما يظهر طغيان العقلنة على عوالم الحياة عندما يُدمر حي سكني من أجل إقامة مصنع جديد أو مجمع سكني، أو عندما تظل المتاجر مفتوحة لوقت متأخر من الليل لزيادة الربح، أو شراء الأسرة تلفازًا إضافيًّا من أجل إرضاء الأذواق المختلفة عند الوالدين والأطفال، وبناءً على الفصل بين النظام وعالم الحياة، فإن عالم الحياة يتفكك إلى ثلاثة مكونات بنيوية متصلة ببعضها، وهي (الثقافة، والمجتمع، والشخصية)، فيتم عزل الثقافة عن الشخصية والمجتمع، ويتم عزل المجتمع عن الثقافة والشخصية، فينشأ عن ذلك فقدان الرؤى الكونية الدينية سلطتها على المؤسسات الاجتماعية، وعلى المنوال ذاته يتم عزل الشخصية عن الثقافة والمجتمع، فينشأ عن ذلك تبني الأفراد للأعراف بانتقائية، إلى جانب مساءلة التقاليد والمؤسسات الاجتماعية وتوجيه النقد لها، بل ومساءلة وانتقاد هوياتهم الشخصية وسلوكياتهم الاجتماعية، وبناءً على ذلك استُعمِر عالم الحياة من خلال زحف العقلانيات المعرفية الأداتية وتفعيل آليات التوجيه المجتمعي اللازمة لإنجاح السوق وإدارة المجتمع بكفاءة.
الفكرة من كتاب حياة تالفة … أزمة النفس الحديثة
لقد رُبط التحديث بالمنافع المادية، ورغم ما يمتكله الإنسان من الماديات بأشكالها وألوانها المختلفة، فما زال يعيش حياة تعيسة، إذ تعددت وتنوعت الجرائم والأمراض من جرائم جنائية كالقتل والسرقة إلى الأمراض الاجتماعية كالطلاق والانتحار والاكتئاب والقلق، والأسر المفككة، وشقاء الفقراء، وأفول المدن الصغيرة، فزاد ذلك من أعداد المتقدمين للعلاج النفسي، ومن ثمَّ يستعرض المؤلف تأثير الحداثة في النفس البشرية، مقدمًا تحليلًا قويًّا في ضوء وقع التحديث والتصنيع الرأسمالي على الخبرة الشخصية والعلاقات الاجتماعية والأسرية.
مؤلف كتاب حياة تالفة … أزمة النفس الحديثة
تود سلون : هو أستاذ مشارك في علم النفس بجامعة تولسا في أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو أحد المساهمين والرواد في مجال علم النفس الشخصي، توفى عام 2018، ومن مؤلفاته:
اتخاذ القرار: خداع النفس في خيارات الحياة.
معلومات عن المترجم:
عبد الله بن سعيد الشهري: هو باحث دكتوراه علوم اجتماعية ومؤلف ومترجم، من كتبه:
ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان.