معضلات الحياة الحديثة
معضلات الحياة الحديثة
خلقت الحداثة مجتمعات حديثة تُكابد في إنتاج بالغين قادرين على الألفة والعمل والاستمتاع والعيش الأخلاقي، فنشرت ضروبًا من الحياة التالفة، فقد أصبح الإنسان الحداثي لا يعرف ما يجب عليه عمله في حياته، ومن ثمَّ فإن إحدى أكبر المشكلات الحداثية أننا نجتهد لفعل الكثير من الأشياء بسرعة أكبر مما كنا نفعل بها شيئًا واحدًا، فالحياة أصبحت تنتظم بازدياد في سلسلة من المواعيد التي لا تترك لنا وقتًا للاستمتاع، فكم مرَّة اختلقنا موعدًا لزيارة الطبيب كحجة لأخذ الابن من المدرسة خلال الفترة بين العمل والانصراف، وكم سهرنا طوال الليل من أجل الوفاء بشيء صباح اليوم التالي، حتى صرنا نردد “إن اليوم ليس فيه ما يكفي من الوقت!” وقد اقترن بهذه الجملة أن الفضاءات المهمة في حياتنا كالأسرة والأصدقاء أصابها الإهمال ما جعلها هشة ومفككة، ما يدفع المرء بين الحين والآخر إلى الحنين إلى نمط الحياة البسيطة كحياة الريف والمدن الصغيرة قبل قرن من الزمان، ومن ثمَّ نجد أنفسنا نسب ونشتم الحداثة عندما نتخيل كم كانت حياتنا ستكون أجمل لو عشنا بإيقاع أبطأ وعلاقات أعمق وأكثر صلابة، ووقت أطول لتقديرها!
إننا نلتقط كينونة العقل الحديث شيئًا فشيئًا عبر التنشئة الاجتماعية للأسرة، والمدرسة، وحتى مجموعات الأقران والأصدقاء، وما تبثه وسائل الإعلام، وعندما نصل إلى مرحلة الشباب نستمر في مواجهة هذه النظرة الكونية الحديثة ونتشرَّبها عبر المحادثات وتقارير الأخبار والخطب وأبراج الحظ والمقررات التعليمية والأفلام، لذلك فإن كل من يعاني من طبيعة الحياة الحديثة يعبر عن ذلك بقوله “إن وتيرة الحياة سريعة”، ومن ثمَّ عندما يستقر الإنسان على طريقة معينة لإنجاز الأمور فإنها لا تلبث أن تتغير، كما نشاهد “خيبة توقعاتنا” فما نرسمه لحياتنا في الصغر يذهب أدراج الرياح عند البلوغ، ونرى “انحدار القيم والإيمان” فالمرء دائمًا في شك لما يجده من طرق عديدة لرؤية العالم، و”انحدار الأخلاق” فلم يعد أحد يحفل بالأخلاق، أو يهتم بغيره، و”غياب المعنى” فالحياة أصبحت خاوية ولا معنى من وراء ما نقوم به إلى جانب الشعور بالملل.
إن الحياة الحديثة مليئة بالتناقضات، فالسكينة الظاهرة لضواحي المدن تكذِّبها معدَّلات العنف المنزلي، وحياة المعوزين، كما أنها لا تزرع سوى بذور الحيرة في الفضاء الروحي والنفسي، فالشك المعرفي الديكارتي عاد ليغزو الإنسان الحديث لكن في أفكاره وقراراته، فنتج عن ذلك شعور الإنسان الحديث الدائم بالشك والتشويش، وفقدان المعنى، فمع التغير المتسارع واستمرار التطور والتبدل، لا يمكن لحيواتنا أن تصبح ما رجوناه وخططناه لها، ومن ثمَّ سينتهي بنا المطاف إلى عيش حياة لم نتطلَّع لها أبدًا.
الفكرة من كتاب حياة تالفة … أزمة النفس الحديثة
لقد رُبط التحديث بالمنافع المادية، ورغم ما يمتكله الإنسان من الماديات بأشكالها وألوانها المختلفة، فما زال يعيش حياة تعيسة، إذ تعددت وتنوعت الجرائم والأمراض من جرائم جنائية كالقتل والسرقة إلى الأمراض الاجتماعية كالطلاق والانتحار والاكتئاب والقلق، والأسر المفككة، وشقاء الفقراء، وأفول المدن الصغيرة، فزاد ذلك من أعداد المتقدمين للعلاج النفسي، ومن ثمَّ يستعرض المؤلف تأثير الحداثة في النفس البشرية، مقدمًا تحليلًا قويًّا في ضوء وقع التحديث والتصنيع الرأسمالي على الخبرة الشخصية والعلاقات الاجتماعية والأسرية.
مؤلف كتاب حياة تالفة … أزمة النفس الحديثة
تود سلون : هو أستاذ مشارك في علم النفس بجامعة تولسا في أوكلاهوما بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو أحد المساهمين والرواد في مجال علم النفس الشخصي، توفى عام 2018، ومن مؤلفاته:
اتخاذ القرار: خداع النفس في خيارات الحياة.
معلومات عن المترجم:
عبد الله بن سعيد الشهري: هو باحث دكتوراه علوم اجتماعية ومؤلف ومترجم، من كتبه:
ثلاث رسائل في الإلحاد والعلم والإيمان.