الإنسان الذات
الإنسان الذات
كلما زادت قدرة البشر على ابتكار تجاربهم وتحويلها وتدميرها، اقتربوا من المعنى الذي يبحثون عنه ويسعون إلى بلوغه، ظهر ذلك في المؤسسات الدينية التي كانت تتمتع بالقدسية مثلما كان الحال في الحضارة الدينية، وظهرت أيضًا في البحث عن الحقوق مثلما الحال في المجتمعات القانونية السياسية، وبقيام الحداثة بتدمير الضامنين فوق الاجتماعيين للنظام الاجتماعي ظهرت مرحلة الحضارة الصناعية التي قلبت علاقات البشر بأنفسهم رأسًا على عقب، فرغم كشفها عن قدرة البشر ووعيهم، فإنها جعلتهم أسرى أعمالهم، وأسرى الترشيد العقلاني، وأسرى إرادة حاكميهم، فلئن قضى المجتمع الصناعي على سلطة عالم ما فوق الطبيعة، فإنه أخضع الأفراد والجماعات لمتطلبات الإنتاج وسلطة العمل، ومن ثمَّ فإن هذا العالم الذي أقيم على العِلم وريادة المشاريع والعمل قد دمرته الحروب العالمية والنزعات الشمولية الهتلرية والسوفييتية، والأزمات المالية التي تعصف بالعالم بين حين وآخر، والتلاعب بالرأي العام، حتى الإنسان المبتكر لم ينج من ذلك، إذ تحول إلى آلة سلطة وحرب.
إن (الإنسان – الذات) هو على النقيض من (إنسان – الطبيعة) و(إنسان – الهوية والجماعة) و(إنسان – الحياة)، فقد أزاح (الإنسان – الذات) العالم فوق الطبيعي ووضع محله النظرة الداخلية للوعي، فأصبح في حذر مستمر من سطوة الموروث، أيًّا كان هذا الموروث، وقد أدى وعي الإنسان بأنه ذات وليس موضوعًا إلى اختفاء كل أشكال وأنواع الطمأنينة والحماية التي كانت توفرها وتتكفل بها الأديان والأعراف والمؤسسات، فصار لا يشعر بالأمان في الحدود الفاصلة التي تحدد هويته وجنسه، ومن ثمَّ فلا بد من معرفة أن الذات لا تنتمي إلى أي نظام سياسي أو اقتصادي، بل تولد من ظهور القضايا الهامة الناتجة عن شبكة من الممارسات الاجتماعية في صنف معين من المجتمع، سواء كان صنف المجتمع دينيًّا أم سياسيًّا أم اقتصاديًّا أم عسكريًّا، وبناءً على ذلك فإن الفعل الذي يبتكر الذات مرهون دائمًا بحضور القضايا التي تتمتع بقدر من الأهمية في المجتمع أو تدميرها، لذلك كان لاختفاء المقدس وتدميره أشد الأثر في الإنسان، فقد ترتب على اختفائه انتشار ثيمة انحدار وتفكك المجتمع.
وبناءً على ذلك، يرى “ألان تورين” أنه من الواجب التفكير في الابتكارية الإنسانية بمصطلحات ثقافية واجتماعية، لا بمصطلحات تقنية واقتصادية، كما لا بد من التذوّت الذي هو وعي الفرد أو الجماعة بالحقوق الكونية للذات الإنسانية كالحق في الحرية والمساواة والكرامة، لأن هذا التذوّت يجعل الأفراد والجماعات حاملين للحقوق الإنسانية الأساسية.
الفكرة من كتاب الحداثة المتجددة.. نحو مجتمعات أكثر إنسانية
يرى “ألان تورين” أن جميع النظريات التي وصفت الحداثة قد اختزلت المجتمعات الحداثية في مجرد مجتمعات اقتصادية استهلاكية أو سياسية قانونية، لذلك يرى أنه لا بد من رفض أي نظرية تقيد السلوك الإنساني وفق قواعد وقوانين ثابتة، ومن خلال ذلك يستعرض مراحل الحداثة، ويحلل المجتمعات الحديثة، كما يرى أننا على أعتاب الدخول إلى مجتمع جديد هو “مجتمع الحداثة الفائقة” حيث يعتمد الإنسان على وعيه بذاته من أجل السيطرة عليها وعلى الطبيعة.
مؤلف كتاب الحداثة المتجددة.. نحو مجتمعات أكثر إنسانية
ألان تورين: هو عالم اجتماعي فرنسي ذو شهرة عالمية، حصل عام 1998 على جائزة “أمالفي Amalfi” الأوربية لعلم الاجتماع والعلوم الاجتماعية، له مؤلفات عديدة بلغت نحو أربعين مؤلفًا، منها:
ما هي الديمقراطية؟
نقد الحداثة.
براديغما جديدة لفهم عالم اليوم.
من أجل علم الاجتماع.
معلومات عن المترجم:
جلال بدلة: مترجم وأكاديمي سوري من مواليد دمشق عام 1977، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة بوردو الثالثة، من ترجماته:
فلسفة العنف.
الهمجية.
الإسلام والجمهورية والعالم.
الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني.