تحليل المجتمعات الحديثة
تحليل المجتمعات الحديثة
إن ما يُحدد ملامح المجتمعات التي نطلق عليها أنها حداثية، هو فعل الابتكار والتحويل إلى جانب التدمير الذاتي، ولكي نفهم هذه المجتمعات لا بد أن نفهمها عبر تاريخيتها وقدرتها على إنتاج التاريخ، ونتيجة لعدم فهم المجتمعات الحداثية من منطلق تاريخيتها، فقد فشلت المحاولات التي هدفت إلى تعريف الحداثة بسبب وقوعها في التناقض، فرأيٌ ذهب إلى أنها انتصار النزعة الفردية، ورأى آخر رأى فيها ولادة مجتمع الجماهير، وفي المقابل هناك من يرى أنها انتصار لقدرة البشر على السيطرة على الطبيعة، بينما يرى آخرون أنها سبب الأزمة المناخية الخطيرة، لذا يُعرِّف “ألان تورين” الحداثة بأنها إرادة وقدرة مجتمعات معينة على ابتكار ذاتها وتحويلها، وتدميرها، نحو الأفضل والأسوأ معًا.
كما يرى “ألان تورين” أنه يحب دعم التعريف السابق بتعريف آخر لـ”إميل دوركهايم” مفاده أنه: “لا يُفسَّر الاجتماعي إلا بالاجتماعي وحده”، لأنه في حال قلنا إن السلوكيات الاجتماعية تفسر وفقًا للوضع الاقتصادي، والاتجاهات السياسية، والموروث الديني فقط، فإن ذلك ينفي وجود وقائع اجتماعية صرفة، وهذا يتنافى مع ما تتطلبه الحداثة من وعي بالذات، والذي يحكم هذا الوعي بذواتنا وبالآخرين هو مستوى تأثيرنا في ذواتنا وبيئاتنا، وهذا يظهر في فكرة الديمقراطية، فهي ليست منحة من الطبيعة أو من إله ما، بل وُلدت من خلال وعي الإنسان الحداثي بذاته، ويزداد الوعي يومًا بعد يوم بأنه هو من يحدد نفسه، ويعيش في عالم من ابتكاره.
تتكون المجتمعات الحداثية من ثلاثة مكونات أساسية، أولًا: الحضارة المادية، ثانيًا: التأويل الثقافي للابتكارية الإنسانية، ثالثًا: الصراعية الاجتماعية، والأخيرة تُعد أحد أكثر المكونات جوهرية في المجتمعات الحداثية، لأنه كلما ازدادت قدرة مجتمع ما على الابتكار والتحول، زادت واتسعت قدرة المهيمنين على الهيمنة على الذات والآراء والقرارات وخيارات العيش، إلى جانب الهيمنة على الأجساد والقوانين والعمل، وللخروج من هذا التناقض المتمثل في الوعي بالذات، وهيمنة من يملكون الموارد واستثمارها، لا بد من التمييز بين تحرير الإنسان بوصفه ذاتًًا إنسانية قادرة على الابتكار، وبين الفرد بوصفه مستهلكًا ومسيطرًا عليه، لذلك فإنه لكي تتحول الحداثة إلى حداثة فائقة لا بد أن يصبح الحداثيون على وعي بذواتهم، والتحرك بوصفهم ذوات حرة ومتساوية في ما بينها.
وبناءً على ذلك، فكما أن الوعي في المجتمعات ذات الموروث الديني يتمثل في خضوع الفرد لإرادة الإله، فإن الحداثة حولت الوعي من كونه وعيًا بالقانون الإلهي إلى وعي بالقانون الإنساني، ما يعني قدرة الإنسان على الابتكار، والتحول الذاتي، والتدمير الذاتي، ومن ثمَّ فإن ما يميّز المجتمعات الحداثية هي قدرتها على التذوّت واضعةً المساواة والحرية فوق كل القوانين.
الفكرة من كتاب الحداثة المتجددة.. نحو مجتمعات أكثر إنسانية
يرى “ألان تورين” أن جميع النظريات التي وصفت الحداثة قد اختزلت المجتمعات الحداثية في مجرد مجتمعات اقتصادية استهلاكية أو سياسية قانونية، لذلك يرى أنه لا بد من رفض أي نظرية تقيد السلوك الإنساني وفق قواعد وقوانين ثابتة، ومن خلال ذلك يستعرض مراحل الحداثة، ويحلل المجتمعات الحديثة، كما يرى أننا على أعتاب الدخول إلى مجتمع جديد هو “مجتمع الحداثة الفائقة” حيث يعتمد الإنسان على وعيه بذاته من أجل السيطرة عليها وعلى الطبيعة.
مؤلف كتاب الحداثة المتجددة.. نحو مجتمعات أكثر إنسانية
ألان تورين: هو عالم اجتماعي فرنسي ذو شهرة عالمية، حصل عام 1998 على جائزة “أمالفي Amalfi” الأوربية لعلم الاجتماع والعلوم الاجتماعية، له مؤلفات عديدة بلغت نحو أربعين مؤلفًا، منها:
ما هي الديمقراطية؟
نقد الحداثة.
براديغما جديدة لفهم عالم اليوم.
من أجل علم الاجتماع.
معلومات عن المترجم:
جلال بدلة: مترجم وأكاديمي سوري من مواليد دمشق عام 1977، حاصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة بوردو الثالثة، من ترجماته:
فلسفة العنف.
الهمجية.
الإسلام والجمهورية والعالم.
الهوية والوجود: العقلانية التنويرية والموروث الديني.