حاضرٌ مُقلَّد!
حاضرٌ مُقلَّد!
ركِّز معي.. سوف آخذك في رحلة إلى الماضي البعيد القريب نسبيًّا، وسأصف لك صورتين، ثم سنحاول بعدها أن نخمِّن إلى من تعود كل صورة، حسنًا إذن! أشعِل فتيل الخيال معي، ولنبدأ:
فالصورة الأولى مستشفى كبير واسع متعدِّد الأقسام إلى جانب مكتبة وقاعة محاضرات ومؤتمرات ودار عبادة ومطبخ ومكان للترفيه، نظيف معد لاستقبال المرضى من كل الجنسيات والفئات العمرية والطبقات الاجتماعية والاختلافات الدينية بالمجان، يُشرف عليه الأمير المُعيَّن من قِبل الحاكم ويزوره الحاكم كل فترة لمتابعة العمل والاطمئنان على المرضى، ليس هذا فحسب، بل يمكننا أن نعدَّه جامعة أو مدرسة يتعلم فيها الأطباء بالممارسة والنظر، وفي حالة الأمراض المستعصية أو المُعدية كالجذام مثلًا فإن لها مستشفيات خاصة منفصلة.
والصورة الثانية مبنى لا يمكننا أن نطلق عليه اسم مستشفى وستعرف لماذا من الوصف؛ صغير جدًّا إلى درجة أن المرضى يتقاسمون السرير الواحد حتى في حالة الموت، والطعام قليل جدًّا ورديء جدًّا، لا تستطيع أن تدخل لزيارة أحدهم إلا إذا وضعت في فمك إسفنجة مبلَّلة بالخل لتفادي الرائحة الكريهة، نعم هناك قاعة منفصلة لأصحاب الأمراض المعدية لكن يبدو أن تخطيط المشفى سيجبرك على أن تمر بها! فضلًا عن المعالجة التي تعتمد في غالب أمرها على أمور كالسحر والشعوذة والبخور أو استعمال الأدوات الحادة التي غالبًا ما تودي بحياة المريض! آه نسيت الأطباء، هم في الغالب منقادون لأوامر ووصايا رجال الدين.
وهنا يأتي السؤال: أيُّ هاتين الصورتين تمثِّل المشافي الإسلامية، وأيُّها تمثل المشافي الأوروبية؟
ربما ستتعجَّب حين أخبرك بأنه من عدة قرون كانت الصورة الأولى تمثِّل صورة المشافي الإسلامية التي بهرت المستشرقين وأوروبا حينها وأخذوا يحاولون تقليد تلك الصورة في وقت كانوا يتعاملون فيه مع المرضى تعاملًا خاليًا من الإنسانية، نعم كانت المشافي الإسلامية المتنقِّلة أو الثابتة منها إنسانية بالدرجة الأولى، وكانت مؤسسة علمية وصرحًا إسلاميًّا متكاملًا لا عمل فيه للسحر والكهانة والأرواح، وإنما العلم والبحث والتطوير والراحة، وعلى النقيض فلقد امتدَّ الظلام الكنسي في أوروبا حتى وضع مخالبه على الأرواح المعذَّبة وزاد من عذابها أو خلَّصها منه وقضى عليها، ولا عجب أن أعداء المسلمين وقتها كانوا يفضِّلون التداوي على أيدي الأطباء المسلمين على الرغم من تحذيرات الكنيسة!
قديمًا وقفت مستشفى العضدي ببغداد والمستشفى النوري بدمشق أمام أوتيل ديو بباريس!
الفكرة من كتاب هكذا كانوا يوم كنا
يوصلنا الجهل أحيانًا إلى أن نعظِّم ما هو حقير، وأن نحقر ما هو عظيم، إلى أن نستهين بالحق ونعلي من الباطل، وإلى أن نطلق أحكامًا في الهواء لا أساس لها ولا برهان، فالعلم يضبط الموازين ويريك الصور على حقيقتها ويربط الأسباب بالنتائج والماضي بالحديث، ويريك التدرُّج التاريخي، ويطلعك على السنن الإلهية لتعرف أين كانوا وأين كنا!
مؤلف كتاب هكذا كانوا يوم كنا
حسان شمسي باشا: طبيب سوري من مواليد حمص عام 1951م، وكان من الخمسة الأوائل في كلية الطب، حصل على شهادة الدراسات العليا في الأمراض الباطنية من جامعة دمشق عام 1978، كما نال درجة الشرف الأولى في الرسالة التي أعدَّها بعنوان “اعتلال العضلة القلبية”.
سافر بعدها إلى بريطانيا للتخصُّص حيث مكث في لندن ومانشستر وبرستون زهاء عشر سنوات، تخصَّص خلالها بأمراض القلب، وعمل زميلًا باحثًا في أمراض القلب في مشافي جامعة مانشستر لمدة ثلاث سنوات، ثم ذهب إلى المملكة العربية السعودية عام 1988 ليعمل استشاريًّا لأمراض القلب في مستشفى الملك فهد للقوات المسلحة بجدة، ومن مؤلفاته:
الأسودان: التمر والماء.
قلبك بين الصحة والمرض.
الوقاية من أمراض شرايين القلب التاجية.