الوسواس.. أخوَف المخاوِف
الوسواس.. أخوَف المخاوِف
أحاديث النفس وأصوات الأفكار مما رُكِّب في الإنسان تركيبًا، ولا مجال للتخلص منه، وإنما التربية والمجاهدة لتلافي ما يضر واجتلاب ما ينفع تمامًا كالبدن، فالوسواس أو الخواطر قابلة بالمجاهدة لأن تكون عونًا للإنسان فتوسوس له بالخير.
في سابقة أخرى، أشار البلخي إلى أن الوساوس منها ما قد يكون لازمًا للإنسان من ولادته مسلِّطًا الضوء هنا على التأثير الوراثي والجينات في تكوين الإنسان، ومنها ما يكون بسبب بدني من تأثير لبعض الأعضاء على النفس، أيًّا كان، فأما الوساوس المبكرة في حياة الإنسان فبالاعتياد عليها واعتبارها عارضة، كصداع أو نحوه، يمكن للإنسان أن يتغاضى عنها فلا تؤثر تأثيرًا قويًّا في حياته، أما التي لم يكن معتادًا وجودها فهذه هي الأصعب، وهي التي تحتاج إلى معاونة داخلية وخارجية.
يميل من أصيب بالوسواس أو بتردُّد الخواطر السيئة عليه إلى سوء الظن بنفسه وبالأقدار أيضًا،كما أنه يميل إلى الضجر والملل من تكرار الملذات مثلًا أو الأماكن ونحو ذلك، وبالعودة إلى ما يُمكن أن يُستعمل من حيل في دفع الوسواس، فمن الحيل الخارجية مثلًا أن يتجنَّب الإنسان الوحدة، لأن في الوحدة تكثر الخواطر وتثور على النفس، وأما بالخِلطة فإنها تقل وينشغل الإنسان بالآخر قليلًا بعيدًا عنها، وبذكر الانشغال فإن الفراغ مما يزيدها أيضًا، فلا بد للإنسان أن يشغل وقته بما يزاحم تلك الخواطر ويصرفها عنه من عمل أو علم أو نحو ذلك، وأما الأسباب الداخلية، أو كما أسميناها سابقًا الأجسام الفكرية المضادة، فمنها ما يُزود به الإنسان نفسه في حال صحته كوقاية لما يعتريه عند مرضه، ومن ذلك أن يذكِّر نفسه أن هذه الوساوس لا أساس لها، فهي إما من خلل عضوي وإما من لمَّة شيطانية ولن تؤثر فيه بما يتوقعه من سوء، ومن ذلك أيضًا أن يتأمل حال من حوله وسلامتهم أو عدم اكتراثهم لما يعتريهم من وساوس مثل اكتراثه هو لها فيحذو حذوهم، وأما حين تعرض له الخواطر فإن مما يمكنه مقاومته بها أن يعلم أن الله خلق الإنسان خلقةً لن ينفكَّ منها عن أن يصيبه شيء في بدنه أو نفسه، ومع ذلك فالله سبحانه خلق الكون والناس خلقةً تغلب فيهم أسباب الصحة على أسباب المرض، وتكثر فيهم الصحة لقِوام حياتهم ومعاشهم، وأن النفس بذلك تميل إلى اجتلاب أسباب صحتها والبعد عما يضرها، ولذلك جعل الله لكل داء دواء إما أن يُسكِّنه أو يقضي عليه، وهذه الحيل الفكرية من ذلك الدواء النافع بإذن الله.
الفكرة من كتاب مصالح الأبدان والأنفس
إن جهلنا بتاريخنا الإسلامي وغلبة المادة والنظرية الغربية المفسِّرة لكل شيء من حولنا تقريبًا أورثنا ضعفًا وانقيادًا للغرب بمخرجاته صحيحة كانت أم فاسدة، وأسلمنا أنفسنا وأجسادنا (بالمعنى الحرفي) له ليجرِّب ويكتشف، ثم يتبيَّن خطأه ونقصه بعد مرور الأعوام وفوات الأوان!
هذا الكتاب يعد دليلًا قويًّا على سبق العالم الإسلامي في الطب النفسي منذ مئات السنين، وبخاصةٍ في العلاج المعرفي السلوكي الذي ينبهر الغرب اليوم بنتائجه، ولكنها عقدة النقص!
مؤلف كتاب مصالح الأبدان والأنفس
أبو زيد البلخي: وُلد في مدينة بلخ، والتي تُعد من أكبر مدن خراسان، وهي اليوم مدينة من مدن أفغانستان عام 235 للهجرة، وفي شبابه سافر إلى العراق طلبًا للعلم فتبحَّر في الفلسفة والفيزياء والتنجيم وأصول الدين والطب، وتتلمذ على يد علماء كبار من بينهم يعقوب بن إسحاق الكندي الفيلسوف العربي المعروف.
لم يكن عصر البلخي عصرًا هادئًا، بل كان مضطربًا من الناحية السياسية ومن الناحية الدينية أيضًا، فأما من الناحية السياسية فاتسم العصر بضعف الدولة العباسية وتكالُب الفتن عليها من كل حدب وصوب، وباشتعال الفتن في البلاد التابعة لها ومن بينها خراسان، واتسمت تلك الفترة أيضًا بظهور الفرق والحركات الباطنية كحركة الزنج والقرامطة مثلًا؛ خروجًا على الدولة العباسية وتأسيسًا لمُلك مستقل عنها، بل وظهرت الفرق والمذاهب الكلامية أيضًا، ويبدو أن البلخي نفسه قد تأثَّر بشيء منها ثم عاد إلى جادة الصواب، ويُقال بل كان على العقيدة الصحيحة، ولم تتكدَّر عقيدته بشيء من ذلك.
بعدما أنهى رحلته في العراق عاد إلى مدينته وعرض عليه حاكمها أحمد بن سهل المروزي الوزارة فرفض البلخي هذا العرض وقبِل أن يكون كاتبًا للحاكم.
ألَّف البلخي ما يقارب الستين كتابًا، ومن ذلك:
فضيلة علم الأخبار.
فضل مكة على سائر البقاع.
الشطرنج.